قراءة في … “أحلام قبل الرحيل الأبدي” “عفى الله عما سلف” … يجب أن تختفي من القاموس السوداني

بقلم/ بابكر عيسى أحمد
سماء السودان الوطن ملبدة بالغيوم ومشحونة بالضبابية وتكتنفها عتمه سوداء تهدد ما تبقى من أمن مجتمعي مع مخاطر متزايدة أن ينفلت عقد الأمن الهش والمفقود لنتحول من جديد إلى لاجئين عبر البحار أو باحثين عن أوطان بديلة …
هذا الذي يحدث لا ينبئ بخير فتكاثر جيوش داخل المدن لن يقود إلا إلى الفوضى والعبث بمقدرات البلاد والعباد.
عندما أجد نفسي عاجزاً عن الكتابة عما يحدث في السودان أعود لأوراقي القديمة وللمقالات التي ظللت أسود بها الصفحات على امتداد أكثر من 50 عاماً علني أجد ترياقاً فيما كتبت يشفي غليل الواقع.
الوطن الأن أمام مأزق عميق ومخاطر المواجهة بين القوات المسلحة السودانية ومليشيا الدعم السريع تزداد وأعلن بيان للقوات المسلحة أن الوضع خطير بعد انتشار ميليشيات الدعم السريع في العاصمة القومية وتمددها في العديد من المدن حتى باتت مروي في المديرية الشمالية هي الهدف لقوات آل دقلو … في غضون ذلك ظل الشعب السوداني يقف على أطراف أصابعه في انتظار مالات الآتي والذي سيقضي على الأخضر واليابس حسب البيانات الرسمية.
السودان الآن في خطر فإندلاع أي مواجهات مسلحة ستعني الكثير وستزيد من معاناة الشعب الذي يعاني في الأساس من الضائقة الإقتصادية والمعيشية والهشاشة الأمنية والفوضى السياسية … وغياب الدولة !
والسؤال هو هل يستمع الفرقاء إلى صوت العقل وأن لا يندلع قتال مسلح في شوارع المدن? أم أن هذه الأصوات ستضيع وسط رياح القتال على مقاعد السلطة ?
مساء ذلك الأربعاء وقبل مغادرة مكتبي بجريدة الراية سلمني الزميل الصحفي السوداني حامد ابراهيم مقال للبروفيسور مهدي أمين التوم جاءت عبر الإنترنت تحت عنوان “أحلام قبل الرحيل الأبدي” ونصحني الزميل حامد بقراءتها … لم أكن أعرف البروف التوم من قبل ولكن مقالته إستوقفتني طويلاً وهو يكتبها وهو على مشارف الخامسة والسبعين -نسأل الله له طول العمر- والمقالة تحمل قدراً كبيراً من الصدق وأمنيات سماها أحلاماً، نتمنى جميعاً أن تتحقق حتى يعود للسودان وجهه الصبوح بعد أن عاش أهوال ثلاثة أنظمة شمولية قاهرة، وفوضى عدة أنظمة ديمقراطية عابثة “لنجد أنفسنا في آخريات أيامنا نعيش غرباء ومضطهدين في وطن لم يعد مليون ميل مربع كما ورثناه عن الأباء والأجداد”.
وتحت عنوان “لك الله يا وطني” كتبت في زاوية مع الأحداث بالراية مقالاً بتاريخ الثامن من مايو 2014 استعرضت فيه الأمنيات التي سماها بروف التوم أحلاماً مشروعة “أن نجد الساحة السياسية خالية تماماً من كل من عبثوا بها خلال الثماني والخمسين سنة الماضية “أي منذ استقلال السودان في يناير عام 1956 وقال في مقاله الذي يبلغ الآن من العمر أكثر من تسعة أعوام أنه “يحلم بإزالة الإنقاذ حزباً وشخوصاً ومفاهيم، كما يحلم بغياب الطائفية تماماً عن الساحة السياسية وحتى الإجتماعية واصفاً لها بأنها استعباد لا يليق بعالم القرن الحادي والعشرين واستغلال لإرث لا يملكونه ولم يصونوه وقال ” كفانا دوراناً حول أنصارية مزعومة وختمية مدعاه” موضحاً أن تاريخ كلتيهما البعيد والقريب ينطوي على مآخذ ومحن تؤهلهما للإنطواء الأبدي.
ويورد البروف التوم العديد من الأحلام التي نتشاطرها معه والتي نتمنى أن تتحقق، منها أن السودان يستحق أن يكون له نظام حزبي متقدم ينظم حياته السياسية على أسس ديمقراطية ثابتة تقوم على المؤسسية الفعلية وليس النظرية، كما يحلم بأن يعود السودان مقسماً إلى وحدات إدارية كبرى انهاءاً لعبث التشرذم الولائي الذي أضعف الإنتماء الوطني عبر بعثه للقبلية والجهوية البغيضة، وأن يحكم السودان مركزياً كما في الماضي شريطة أن يواكب ذلك توفير كوادر إدارية مؤهلة وقادرة.
ويعيدنا البروف التوم إلى أيام الزمن الجميل أيام مجانية العلاج ومجانية التعليم ويقول أن التعليم هو أساس المستقبل ولكنه الآن محتضر ويحلم بإدخاله غرفة الإنعاش، حيث يحتاج التعليم العام إلى إعادة صياغة هيكلية وعملية والعودة إلى الثلاثية المجربة: أساس ومتوسط وثانوي، ولكل مرحلة سنوات أربع تليها تصفيات طبيعية عبر منافسات أكاديمية عادلة تؤهل البعض للتقدم علمياً كما تؤهل آخرين للتقدم في سلم المهنية التي يحتاجها المجتمع بقدر إحتياجه للأكاديمين مسترجعاً الحلم بعودة بخت الرضا كفكرة تؤازرها مجموعة معاهد تدريب المعلمين التي تخلق من التعليم مهنة جديرة بالإحترام وليست مهنة من لا مهنة له … كما تمنى عودة التعليم الأهلي بمفهومه الصحيح مستذكراً الشيخ بابكر بدري ورواد مؤتمر الخريجين الذين أرسوا قواعد ومفاهيم التعليم الأهلي في السودان فنفعوا به الابناء والبنات دون مّن أو أذى أو تربح ظالم على حساب الأفراد والمجتمع.
ويضيف البروف: أنما حدث من عبث منهجي وهيكلي بالتعليم العام انعكس سلباً على التعليم العالي فانحط هو الآخر وضعفت مخرجاته واصبحت سمعة مؤسساته في الحضيض وخرجت جامعاته من مظلات الترتيب العالمي، ويحلم بعودة الجامعات السودانية إلى مواقعها المتقدمة في العالم والإقليم.
وحلم آخر يراودنا جميعاً هو عودة دولة الرعاية الإجتماعية التي أعطت المجتمع تعليماً راقياً وأعطته خدمة طبية ممتازة متاحة مجاناً لكل فرد من أبناء الشعب دون تمييز ودون طبقية، ويحلم بأن يكون المعلمون هم الأكثر تقديراً مادياً ومجتمعياً فهم بناة المجتمع الحقيقيون الذين يحترقون لإنارة الطريق لأجيال المستقبل.
وقال البروف التوم أن هناك أحلاماً كثيرة يحتاج تفصيلها إلى مجلدات غير أننا نتفق معه على وجوب إختفاء مصطلح “عفى الله عما سلف” من قاموس أهل السودان ليدفع كل من اقترف ذنباً في حق هذه البلاد العظيمة ثمناً يليق بجرمه ليرعوي الآخرون ويتقوا الله في وطنهم وأهلهم … ولك الله يا وطني.