أعمدة الرأي

عبد العزيز عبدالوهاب يكتب ( هذي رؤاي) أوعديني

 

من أي وادٍ أنت وما جبلٌتك ؟ هل أنت ممن يتشارك مع (البومة) التي تسهر ليلتها بل ربما تتمدد في السهر نهارا فيفوتها ما يفوتها من المكاسب ، أو لعلك تكون بسلامة حس (الكروان) ورشاقته ، حين يفرك عينيه مع أول تكبيرة للديك، فيكون حاضراً في الموعد تماما .

حسنا .. يتباهى السويسريون ببايولوجية أصلية المنشأ ، عالية التحسس تجاه المواعيد ، وعلى ذات التحسس، تراهم قد أجادوا صناعة الساعات وعلٌموا الناس معنى الإلتزام . لكن الناس قليلا ما عملوا بما علموا .

فالإلتزام عند القوم ليس مظهرا جماليا ولا كماليا ، وإنما حالة رضى تفيض على النفس بالسعادة ، بينما يمثل عدم الإلتزام بنظرهم (نقصا مروعا ) في الفضيلة.

لكن جنيف المنافسة العتيدة في دقة المواعيد تجد نفسها في حرج بالغ مع طوكيو التي يبلغ متوسط تأخر القطار عن موعده بنحو 36 ثانية فقط ، بينما يقفز المعدل في جنيف إلى أكثر من 90 ثانية، مما يجلب الضجر والسخط بينهم .

لكن الأمر يبدو مغايرا بل ومثيرا للشفقة في نيويورك التي يصل معدل تأخر الحافلة عن موعدها إلى 15 دقيقة ، هذا إذا وصلت أساسا.

ومع ذلك فلايزال يُنظر إلى الوفاء بالمواعيد والرغبة في النجاح والكفاءة على أنها(رذائل أمريكية عظيمة)
تستوجب الفخر.

الحالمون فقط هم الذين لديهم تقدير مشوٌه للوقت والإلتزام ، فالدقيقة لديهم تساوي 77 ثانية ، بينما عند أصحاب الهمة فهي في مستوى 58 ثانية فقط .

هناك شعوب لا تكترث بالمواعيد ، بل تكره مجرد النظر إلى الساعة كما في غانا ، ففي النظر إليها ( مضيعة للوقت) المهدور أصلا.

وعندما جرب رئيس الحكومة الأسبق الإلتزام بالحضور إلى القصر عند التاسعة والنصف تماما تبين أن الأمر سيكون شاقا جدا على طواقم البروتوكول والأمن ليعود الأمر سريعا إلى ما إعتاد الناس عليه تحقيقا للمثل القائل :
من خلٌى عادتو قلٌت سعادتو.

بعض المهن إشتهر الصنايعية فيها بعدم الوفاء بتعهداتهم تجاه زبائنهم، وصاروا مضرب المثل في التباطؤ وعدم الإكتراث، ( أنا ما بفسر وإنت ما تقصٌر).

وهؤلاء هم نتاج بيئة ممهولة المزاج ، تحسب زمنها بالضحوية ونص النهار والعصر البارد ، في محاولة جسورة منهم للهروب من الحساب بالدقيقة والثانية ، من دون أن يسعوا لتحرير أنفسهم وصنعتهم من هذا التوصيف المذموم.

بعض علامات الرضا تُمنح لمن درجوا على التأخر ، فقد وصفتهم دراسة بأنهم أكثر سعادة وأقل توترا مقارنة مع أولئك الذين يعيشون تحت ضغط الإلتزام بالمواعيد . (فالتوتر يتسبب في أضرار نفسية، ويُفرز الكورتيزول وهو هرمون يستنزف الجسم والذهن)

تقول هيلين ليوييه صاحبة كتاب “الثناء على التأخير” إن المتأخرين قد أدركوا دون قصد فوائد الاسترخاء والمرونة في الأوقات ، مثلما كان عليه الأجداد ، كما أن السباق المحموم مع الزمن يأتي غالبا بنتائج عكسية ،كأنهم يتحالفون صحيا مع المثل القائل :
في التأني السلامة وفي العجلة الندامة .

لكن الفريق المنضبط لا يتردد مطلقا في صرف ( البركاوي) لأصحاب هذا الرأي ، ناس ( سوف ولكن) من ذوي العقول ذات الجودة الرديئة كما جاء في القول .

فعدم الوفاء بنظرهم يعتبر من الخطايا التي لا تغتفر ، وأن المتأخرين هم أشخاص يسعون دوما لإلحاق الفشل بأنفسهم .

في سياق آخر لكنه وثيق الصلة ، فإن العشاق والشعراء عبر التاريخ ظلوا يشكون لطوب الأرض من عدم وفاء الحبيبة بوعدها .

ومنهن ؛ بالأساس ؛ من لا تسمح لنفسها مطلقا بأن تكون أول الحاضرين .

ولا يخلو الأمر هنا من الولع والدلع والتمنع والسعي لإستثارة الكوامن والشغف.

فها هو الشاعر وجيه البارودي يرعد ويزمجر
في قصيدته ( مواعيد) حين ينشد :
قالت غداً وفي غد
جئت فقالت للغد
وماغد من أمسه
أو غده بأسعد
وهكذا من موعد
لموعد لموعد
إن قلت لن أعود
قال القلب ويلك اتئد
عد كل يوم ضارعاً
مستعطفاً لا تزهد
وارجع كما شاء الهوى
معذباً صفر اليد !!
أما الفارع ، عمر الطيب الدوش فمضى يفتش بعيدا عن محبوبته إذ لم تأت :
ولمّا تغيب عن الميعاد
بفتِّش ليهَا في التاريخ واسأل عنَّها الأجداد
واسأل عنّها المستقبل اللسّع سنينو بُعاد
بفتِّش ليها في اللوحات مَحَل الخاطر الما عاد
وفي أحزان عيون الناس وفي الضُّل الوقَف ما زاد

ويبدع الفنان صالح الضي حين يجدد (تحذيرها ) بعدم خلف الميعاد ..والذي يتضح أنه لم يكن للمرة الأولى وذلك بتصدير قصيدته بفعل الأمر ..أوعكْ …

ﺍﻭﻋﻚ تخلف الميعاد
ﻭﺍﻧﺖ ﻋﺎﺭﻑ ﺷﻮقي كم
ﺍﻭع تطول البعاد
ﻭﺗسبب ﻟﻲ الأﻟﻢ
ﺑﺴﺘﻨﺎﻙ ﻭﻗﻠﺒﻲ ﺧﺎﻓﻖ
ﻓﻲ ﻟﺤﻈﺎﺕ ﺍﻟﻌﺸﻢ …

أخيرا وللإنصاف فقد أظهرت دراسة أن المرأة أثبتت تفوقها على الرجل في حال جلوسهما معا لإمتحان مشترك ، غير محدد بزمن . لكنها تأخرت عنه عندما تم تقييد الإمتحان بنحو ساعة !؟.

بيد أن عزيمتها تتلاشى كليا أو جزئيا عندما يتعلق الأمر بالريدة وشجونا .!؟ فما السر وراء ذلك دام فضلكم ؟.

ومع هذا ياصديقي فلا مناص من الطلب منها بما معناه :
أوعديني .. ولو بكلمة
وحتى لاتنسى فأرجو أن أذكرك بأن تملأ جيبك بالقرض و قلبك بالصبر ، لأن أكثر وعدهنٌ ممطول

ودمتم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى