إسيديات الثلاثاء* عثمان الشيخ الأسيد يكتب ويسألونك: من أنا؟

كانت طفولتنا ثريةً ومتنوعةً بحكم عمل الوالد في سكك حديد السودان (بوليس السكة حديد).. والبوليس وقتها يعنى الهيبة والسلطة، يضبط الأمور، ويضمن الحقوق، وحيثما كان بين الناس، يخشاه مجرمُهم، ويأمَنُ خائفُهم، وينتصر لمظلومِهم.. ويستعينون به لإصلاح ذات بينهم في مشكلاتهم الاجتماعية.. كانوا يقبلون حكمه، فهو بالنسبة لهم ، سلطانٌ يمضي وقاضٍ يقضي، وزوج يرضي… أما نحن – أولاد البوليس- فقد كان يحترمنا الكبارُ ويهابنا الصغار ويتجنبنا الأشرار.. كنا صورةً مصغرةً لتلك القمة الشاهقة التي يحاول الكلُ الوصولَ اليها..
تنقلنا مع الوالد البوليس في معظم اقاليم ومدن السودان.. نشرق يوم ونغرب يوم.. سنين وسنين.
في الخرطوم تشعبطنا في العربات، وكنا نسميها (يا عم بـ وراك ).. تحت شجر النيم لعبنا (البلي).. وتحت أعمدة النور لعبنا (شدَّت وحرينا وكديس من نطّاك).. وبعيداً عن الاضواء،لعبنا (شليل وينو)؟ وهتفنا مع الكبار في شارع القصر … لا ضلالَ ولا تضليل عاش الشعب مع اسماعيل( الرئيس اسماعيل الازهري) ولكني كنت في ذلك الوقت أعتقد أن المقصود هو جارنا اسماعيل الحلبي..
وبعدها انتقلنا إلى مدينة بورتسودان، حيث لعبنا بالأصداف على شاطئ البحر الاحمر.. ودخلنا الملاهي الليليةَ، واستمتعنا بالفرق الأجنبية، التي كانت تزور الثغر في تلك الفترة.. شاهدنا السيرك الهندي والايطالي، واندهشنا من عجائب السحرة، ورشاقة الافيال ووداعة الاسود،
أكلنا السلات مع الهدندوة في حي العرب وترب هدر وديم مدينة وسكنا في بيوت الخشب وأنكوينا بحرارة صيف بورتسودان.. وعشنا الأمطار في الشتاء..
وفي مدينة كسلا عشنا في غرب القاش مع الفلاتة ودرسنا في مدارسهم وتعلمنا شيئًا من لغتهم..وكنا من مشجعي فريقهم فريق (القاش).. ولعبنا في السواقي الجنوبية وسرقنا منها الفواكه، وسبحنا في نهر القاش الموسمي.
ثم ذهبنا الي مدينة الأبيض ودخلنا غابة الهشاب على صهوة الحصين التي كانت ترعى بالقرب من الغابة وحفرنا في شجر الصمغ، وكلٌ منا كان يعرف شجرته، ثم نأتي بعد فترة لنجني الصمغَ ثم نرميه على أرض الغابة ليحصده الحاصدون لاحقًا مع المحصول. أما نحن كنا لا نذهب به البيوت ، فهو أداةُ جريمةٍ يُعرفُ بها الأهل اننا كنا في الغابة ، تلك جريمة عقوبتها الجلد ( بسير الصفارة) هذا السير الذي لا يعرف مدى المه الا أولاد البوليس، أما غيرهم لا يعرفون الصفارة ولا سيرها.. والصفارة هي صافرة عادية تُعلَّق بسير جلدي داخل جيب قميص البوليس، كانت تُصرف عهدةً لكل بوليس يستخدمها عند الحاجة، ولكن الذي رأيناه نحن ، لم تُستخدم هذه الصفارة ولا مرة واحدة في العمر، أما سيرُها كان يستخدم عدة مرات لجلدنا به نحن أولاد البوليس بغرض العقوبة والتأديب .
وفي الأبيض دخلنا (سوق أبو جهل).. وأكلنا الــ قدو قدو والقضيم والدوليب والجراد المحمَّر، في سوق أبو جهل كانت تغوص ارجلنا في رماله، وكنا نحب المطرَ في الأبيض، لانَّ اللهَ يثبت به الاقدام، ولرؤية طيور السمبر، والصقر ( كلنج أبو صلعة) والضب المهندس..
في سنار زرعنا الذرة ( بالسَلّوُكة ) مع السكان الاصليين في مزارعهم المطرية التي يسمونها ا(لبلاد) وشرَّكْنا للطير.. واكلنا الاقاشيه.. وتسللنا داخل القطارات البخارية.. وسافرنا الي المحطات القريبة:(جبل موية وجبل دود وجبل بيوت) أما بقطار (الوحدة) الكهربائي الذي يتكون من ثلاث عربات، يزيدُ حماسُنا فنسافر حتى (سنجة والدندر) والعودة في نفس النهار بذات القطار.. كانت لعبةً ممتعة ومغامرةً جريئة، بالرغم من عقوبة سير الصفارة التي كانت تنتظرنا..
في العطلات المدرسية، كنا نسافر للبلد (الغابة) ريفي الدبة بالولاية الشمالية.. هناك سرحنا بالبهائم وسبحنا في الحفير التحت واكلنا الجُميز والحمبك وفي رواية الهمبك، والبسكيت وحشينا البرسيم (فطّرنا البهائم وعشيناهم) واكلنا الـ جَكَّه مِسّة، وملاح الكَدَّاد والسبروك. ولم نسلم من لدغ العقارب ونار الهَيّوب..
وخلال هذه الرحلة
من المشاهير الذين تعلمنا منهم، الفنان المبدع عبد القادر سالم مدرسنا في مدرسة الشرقية(أ) الابتدائية في عروس الرمال.. كان ينشد لنا بصوته الرخيم، أناشيد الجفرافية، ونحن نُردد معه بحماس ونضرب على الادراج مشكلين أوركسترا رائعة متخيلين حقِا أننا متوجهين الي القولد، خلف القائد المبدع ونردد معه:
فى القولد التقيت بالصديـق.. أنعم به من فاضل صديقي..
خرجت أمشى معه للساقية.. ويا لها من ذكريات باقيــة..
فكم أكلت معــه الكابيدا.. وكــم سمعت اورو والودا..
ثم ينتقل بنا الى الجفيل، بسلاسة ومتعة رائعة نشدو معه:
ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎﻙ ﻗﻤﺖ ﻟﻠﺠﻔﻴـﻞ..
ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻬﺸﺎﺏ ﺍﻟﻨﻀﺮ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ..
وتستمر رحلتُنا السعيدة من القولد الي الجفيل الي ود سلفاب الي ريرة.. نعيش الأجواءَ سعداءَ بالرحلة، يغمرنا الشوقُ لرؤية صديقنا ( منقو زمبيري ) لنقول له:
أنت سوداني وسوداني أنا.. ضمنا الوادي فمن يفصلنا.. نحن روحان حللنا بدنا.. منقو قل لا عاش من يفصلنا.. قل معي لا عاش من يفصلنا… يتسلل إلى مسامعنا صوت الأستاذ عبد القادر سالم ثم نردد معه:
ﻣﺎ ﺯﻟﺖ ﻓﻰ ﺭﺣﻼﺗﻰ ﺍﻟﺴﻌﻴﺪﺓ..
ﺣﺘﻰ ﻭﺻﻠﺖ ﻳﺎ ﻣﺒﻴﻮ ﺍﻟﺒﻌﻴﺪﺓ..
ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻏﺰﻳﺮﺓ ﺍﻻﺷﺠــﺎﺭ..
ﻟﻤﺎ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﻛﺜﺮﺓ ﺍﻷﻣﻄــﺎﺭ..
كيف ننسى وهذه معاني محفورة في الوجدان، و صور مطبوعة على الأعين لا يستطيع إنسان أو قوة في الوجود أن تمحوها تماماً.. ثم ماذا ؟ ثم كبرنا ودخلنا حياة الشباب، خرجنا في المظاهرات ، هتفنا وصرخنا حتى بحت أصواتنا، كنت واثق أنني لو منحوني الفرصة سوف أنقذ العالم بأجمعه.. وعندما دخلت الحياةَ العمليةَ وجدت نفسي أحاول جاهداً لإنقاذ جزءٍ من مرتبي.
كنا صغارًا نرعى البهم يا ليت اننا ،،،،،،،، إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ..
يا لها من معادلة عجيبة.. الرحلة طويلة.. والعمر قصير.. وهو يسير، ولله أمرٌ في الغيب إنا صائرون إليه..
والله أعلى وأعلم
27 أغسطس 2024م