مقالات الرأي

بابكر الشيخ الأسيد قرار كورتكيلا في ميزان الفقه والقانون الدستوري

أصدر الباشمهندس محمد كورتكيلا وزير الحكم الاتحادي قرارًا- خاطب به ولاة الولايات- بتقليص الوزارات بالولايات إلى ثلاث وزارات بدلًا عن سبع، وذلك بدمج عدد من الوزارات في بعضها. وقد احتفظ القرار بمهام الوزارات المُدمجة، وذلك عندما جعلها إدارات بذات المهام والاختصاصات تتبع لوزير الوزارة الكبيرة المُدْمَج فيها. وفي تصريحاتٍ له، رهن السيد الوزير نجاح القرار بكفاءة الوزير ومدراء الإدارات الوليدة. وقد برر الوزير هذا القرار بتدني الدخل القومي والحالة الاقتصادية السيئة التي وصلت إليها البلاد بسبب الحرب (الغزو الإماراتي للسودان) على أمل أن يقلل القرار من الصرف الحكومي على مرتبات ومخصصات الوزراء الولائيين. وجد هذا القرار ردودَ فعلٍ متباينة، بين مؤيد ومعارض، ولكل حججه وأسانيده ومنطقه. إلا أنَّ كلا الفريقين تناوله من منطلقات اقتصادية وسياسية. فقد ذهب البعض إلى أن القرار لن يحدث تغييرًا معتبرًا في الصرف الحكومي، بالنظر للصرف الحالي على الوزراء الولائيين ووزاراتهم، وذهب البعض إلى أن الأولى بالقرار هي الوزارات الاتحادية، حيث الصرف فيها أكبر. بينما ذهب آخرون إلى أن هناك أوجه كثيرة للصرف تنهك الخزينة المنهوكة بصورة اكبر من مرتبات ومخصصات الوزراء، علاوة على الفساد الذي لم يوقفه حالُ البلد. وذهب البعض إلى أن القرار كان يجب أن يصدر من وزارة المالية بتقليص أوجه الصرف في كافة اجهزة الدولة. هذا المقال ليس لترجيح رأي على آخر، ولكنه ليضع هذا القرار في ميزان آخر لم يُوضع عليه، وهو ميزان الدستور.

قسم فقهاء القانون الدستوري الدولة من حيث الشكل إلى دولة بسيطة أو موحدة، ودولة مركبة. وهذا التقسيم يعتمد على وصف السلطة وتركيبها في الدولة، ويعني ذلك أن السلطة في الدولة الموحدة تكون واحدةً، وتتوحد القوانين فيها ويكون لها فوق ذلك دستورٌ واحد. أما الدولة المركبة فتتعدد السلطات فيها وتتوزع بين المركز والوحدات المكونة للدولة كما تتعدد القوانين فيها. ولها لها عدة أنواع، وهي الإتحاد الشخصي وهو أضعف صور الإتحاد، حيث لا تنشأ عنه دولة جديدة فهو يقوم على إتحاد دولتين أو أكثر تحت عرش واحد مع إحتفاظ كل دولة من الدول الداخلة فيه بإستقلالها الخارجي والداخلي، وذلك مثل إتحاد إنجلترا وهانوفر سنة 1719م وإتحاد هولندا ولكمسبورج 1815م.. ومنها، الإتحاد الإستقلالي أو التعاهدي والذي ينشأ بإنضمام دولتين أو أكثر في إتحاد وفقاً لمعاهدة. وفي هذا النوع – أيضًا – تحتفظ كل دولة باستقلالها الخارجي والداخلي، ومثاله الإتحاد الجيرماني سنة 1866م، وقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بهذا النوع، وكذلك سويسرا. وهنالك نوع ثالث، وهو الإتحاد الحقيقي أو الفعلي والذي ينشأ عن إتحاد دولتين أو أكثر في إتحاد دائم لا مؤقت، وهذا النوع تفنى فيه الشخصية القانونية لكل دولة من الدول المتحدة وتنشأ شخصية قانونية جديدة تنفرد بممارسة السياسة الخارجية لدول الإتحاد وتتقيد الدول الأعضاء بكافة التصرفات الخارجية التي تعقدها سلطات الإتحاد. ومن أمثلة هذا النوع إتحاد النمسا والمجر(1767-1918م) والذي أنشأ إمبراطورية النمسا والمجر وانتهى بهزيمة النمسا والمجر في الحرب العالمية الأولى ومن أمثلته، أيضا،ًإتحاد السويد والنرويج(1815-1905م).

إن أقوى نوع من أنواع الدولة المركبة، هو الاتحاد الفيدرالي أو الاتحاد المركزي، ففيه تنصهر الدول المكونة له في دولة واحدة وتتحول هذه الدول إلى دويلات أو ولايات وتنصهر كلها في بوتقة واحدة مكونة دولة واحدة هي دولة الإتحاد، والتي تصبح ذات شخصية قانونية وتتمتع بكافة السيادة الخارجية وبجزء من السيادة الداخلية لكل ولاية أو دويلة حسبما يقرره الدستور الإتحادي، ويكون هناك دستور إتحادي يحمل المبادئ العامة المنظمة لكافة الإتحاد، وإلى جانبه دساتير الولايات، حيث يكون لكل ولاية دستور خاص بها تتجسد فيه خصوصيات الولاية ويمثل أحد مظاهر الإستقلال، حيث إن الإتحاد المركزي أو الفيدرالي- وإن كان يعني تذويب كل الدويلات أو الولايات التي تكونه- إلا أن هناك مظاهر استقلال لكل ولاية، والدستور الولائي من هذه المظاهر. وهناك طريقتان يتكون بها الإتحاد الفيدرالي، الطريقة الأولي: هي إتحاد عدة دول في دولة واحدة. والطريقة الثانية: هي أن تتفكك دولة موحدة إلى عدة دويلات أو ولايات مكونة الإتحاد الفيدرالي. ومثال الطريقة الأولي الولايات المتحدة الأمريكية، ومثال الطريقة الثانية السُودان الذي كان دولةً موحدةً منذ الإستقلال ثم تفكك إلى عدة ولايات بموجب المرسوم الدستوري الرابع لسنة 1991م.

إذن، فإنَّ الوزارات الولائية تأسست على أساس الصيغة الاتحادية التي اتخذها السودان شكلًا للدولة قبل ثلاثة وثلاثين عامًا. وهي مسألة حتمية ولازمة لتطبيق الفيدرالية، حيث إن لكل دستور ولائي خاص بها، سلطة تنفيذية على رأسها والي الولاية وتحته حكومته المكونة من الوزراء ومعتمدي المحليات، وسلطة تشريعية ممثلة في المجلس التشريعي للولاية تراقب الجهاز التنفيذي للولاية وتُصدر التشريعات الخاصة بالولاية، وسلطة قضائية تفصل في القضايا المدنية والجنائية في دائرة اختصاص الولاية..تعمل هذه السلطات مستقلة عن المركز في حدود الاختصاصات التي حددها الدستور الاتحادي.

وعلى الرغم من إلغاء دستور السودان الانتقالي لسنة2005م، إلا أن الاتحاد الفيدرالي مازال هو الشكل المعتمد للدولة، وقد أكدت عليه الوثيقة الدستورية والواقع العملي الذي أبقى على الولاة وحكوماتهم. ولذلك، فإن قرار وزير الحكم الاتحادي الأخير، الخاص بتقليص عدد الوزارات يأتي مخالفًا للدستور، ويهدم فكرة الاتحاد الفيدرالي ويفرغها من محتواه. وبذلك يصبح الولاة، ولاةً بلا حكومات.. وإن كان لابد من تقليص الصرف الحكومي، فإن الامر يتطلب إصدار مرسوم من مجلس السيادة بإلغاء الصيغة الفيدرالية، والعودة لصيغة الدولة الموحدة ومركزية الإدارة. ويترتب على ذلك إلغاء منصب الوالي والمجالس التشريعية وكل الوزارات الولائية، وتدمج الولايات في مديريات أو محافظات على رأسها مدير أو محافظ يكون مسوولًا لدى المركز، فالاتحاد الفيدرالي كلٌ لا يتجزأ، إما أن تأخذه كله بحقه أو تتركه كله، وإلا فإن شكل الدولة سيكون مشوهًا، رأسه فيدرالي وجسده موحد.

هذا، والله أعلم..

28 نوفمبر 2024م

البريد الالكتروني: babikirosaid@gmail.com 

هاتف (اتصال – واتساب): +966543215039

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!