أعمدة الرأي

عميد شرطة (م) عمر محمد عثمان الثمن الباهظ… وما الثمرة؟

 

في كل بيتٍ سودانيٍّ قصةُ فاجعة، وفي كل شارعٍ حكايةُ وجع، وفي كل مخيمٍ نازحون يحلمون بالعودة، وفي كل بلدٍ لاجئون يقتلهم الشوق إلى الوطن.

 

ليس الحديث هنا عن أرقامٍ مجردة أو إحصائياتٍ جامدة، بل عن وجوهٍ غابت، وأصواتٍ خمدت، وأحلامٍ تحولت إلى كوابيس. آلافُ الشهداء، ومئاتُ الآلاف من الجرحى، ونساءٌ حملن أعباء الألم، وأطفالٌ وجدوا أنفسهم فجأةً في عالمٍ بلا مأوى، بلا مدارس، بلا أمان.

 

مدنٌ كانت تضج بالحياة صارت أطلالاً، مستشفياتٌ كانت تعج بالمرضى والمولودين الجدد تحولت إلى أنقاض، مدارسٌ كانت تضج بالضحكات أُغلقت، شوارعُ كانت تعج بالحركة باتت مهجورة، جدرانٌ تصدعت، وجسورٌ انهارت، وكهرباءٌ انقطعت، ومياهٌ شحّت… كيف يمكن لبلدٍ أن يستمر في العيش وسط هذا الخراب؟ وكيف يمكن لشعبٍ أن يصمد بعد كل هذا الدمار؟

 

لكن، ومع كل هذا الألم، هل خسر السودان كل شيء؟ أم أن هناك شيئًا ما يولد وسط الرماد؟ لقد أسقطت الحرب أقنعةً كثيرة، كشفت من وقف مع السودان ومن تاجر بمصيره، وأظهرت من كان يتغنى بالوطنية ومن باع الوطن بأبخس الأثمان. لم يعد من السهل خداع السودانيين بالشعارات، ولم يعد بالإمكان استغلال أحلامهم لمكاسب زائفة. صار الشعب أكثر وعياً، وأكثر إدراكاً لمن يعمل لصالحه ومن يعبث بمستقبله.

 

ورغم الجراح العميقة، لم يفقد السودان إرادته. نعم، الطريق طويلٌ وشاق، لكن التاريخ علمنا أن الأمم العظيمة تُبنى على التضحيات، وأن الألم قد يكون المخاض العسير لميلاد وطنٍ أكثر صلابة. إعادة الإعمار ليست مجرد بناء ما تهدم، بل هي إعادة بناء الروح السودانية، وإعادة ترميم الثقة، واستعادة السودان الذي نعرفه، السودان الذي نحلم به.

 

قد يكون الثمن الذي دُفع غالياً، بل وأثقل مما يحتمله أي شعب، لكن السودان لم يسقط، ولم يستسلم. وما علينا الآن إلا أن نحمل هذا الثمن بقلوبنا وعقولنا، ونجعل منه وقوداً لاستعادة وطننا، حتى لا تضيع تضحيات الشهداء والجرحى والنازحين والمغتصبات هباءً. فالأمم التي تتعلم من مآسيها وتصنع من جراحها جسوراً نحو المستقبل، هي التي تبقى.

 

عميد شرطة (م)

عمر محمد عثمان

 

٢٦ فبراير ٢٠٢٥م

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!