بابكر الشيخ الاسيد يكتب غريب في المدينة!!

حكى لي صديقي القانوني أنه كان مشاركًا في دورة تدريبية قانونية في إحدى العواصم الإفريقية، كانت عن (حكم القانون و حقوق الإنسان).. المشاركون من عدد من الدول الإفريقية.. قال لي إنَّ مواضيع الدورة، و التي استمرت لمدة أسبوعين كانت عن المبادئ التي ترتكز عليها دولة القانون، و التي إذا غاب منها مبدأ، فلا يمكن أن نقول إننا في دولة قانون.. و من هذه المبادئ: الديمقراطية و الفصل بين السلطات و استقلال القضاء و سيادة القانون (rule of law) و الشرعية و المشروعية و حماية الحقوق و الحريات و المسؤولية و المحاسبة و المواطنة و المساواة..توفر هذه المرتكزات يجعلنا ان نقول- ملء فمنا- إننا في دولة قانون، و أن دولتنا قائمة على العدل و الشفافية، مما يوفر الثقة بين المواطن و مؤسسات الدولة..
قال لي صديقي إنَّ محاضرات هذه الدورة كانت عبارة عن حلقات نقاش، كل مجموعة تعكس تجربة دولتها، و حكى ممثلو الدول نماذج من هذه المبادئ في دولهم. بالرغم من قناعتي أنه لا توجد دولة إفريقية تعتبر دولة قانون كاملة الدسم، حيث إذا توفر مبدأ، غابت أُخريات، إلا أنني لم أجد ما أشارك به، حيث غابت كل هذه المبادئ عندنا، خاصةً أن المشاركين كانوا يعرضون نماذجَهم المشرقة بالمستندات و بالصورة و الصوت، أحيانًا. وقد لاحظتُ أن معظم هذه النماذج كانت في مبدأ الفصل بين السلطات، و الذي يتفرع منه مبدأ استقلال القضاء، و الذي يفرض احترام أحكامه. و كل النماذج كانت إيجابية، و أذكر أن ممثل مصر كان قد عرض نماذجَ بالبروجيكتر لحيثيات قرارات محاكم مجلس الدولة في القضايا الإدارية ضد الحكومة لصالح أفراد، ثم صدور الأحكام، ثم عرض ملابسات تنفيذها بصورة أذهلتني، فقد استجابت جهة الإدارة- وكانت في أحد النماذج سلطة سيادية- إلى أحكام القضاء دون حتى استئنافها، فقامت بإعادة الحال إلى ما كان عليه قبل صدور القرار الملغي، و دفع التعويضات المحكوم بها كاملة غير منقوصة.. و رغم أن هذه النماذج كانت كلها إيجابية، إلا أنني هممتُ بأن أقدمَ نموذجًا من نماذجنا السيئة في عدم احترام أحكام القضاء، و تذكرت قضيتكم (يقصد قضية الطعن الإداري لضباط الشرطة المفصولين في فبراير 2020م) وقال لي إنه سيقدمها كنموذج مغاير لما قدمه المشاركون، لكنه عدَّل رأيه و آثر الاكتفاء بالمتابعة. و أردف قائلًا: إنَّ قضيتكم تصلح نموذجًا لدولة اللا قانون، فهي نموذجٌ لسوء استخدام السلطة و نموذجٌ لعدم المشروعية، ثم هي نموذج لغياب مبدأ الفصل بين السلطات، و هي النموذج الأسوأ في عدم احترام أحكام القضاء بواسطة السلطة التنفيذية..
واصل صديقي قائلًا: إن عدم احترام السلطة التنفيذية لأحكام القضاء، كان قد أُفرد له محاضرةٌ كاملة، و كانت قضيتكم حاضرة في ذهني، و اجتهدت في مقاومة نفسي أن تظلَ حبيسة داخلي، لا أشارك بها حفاظًا على احترامٍ وجدته من المنظمين و المشاركين، رغم اني كنت على قناعة بأنها كانت ستكون المشاركة الأبرز، لكنها على حساب سمعة البلد، فمهما يكن أبطال هذه المهزلة، فإنَّ أملي أن يتغير الحال، كان كبيرًا.. وقال لي إنَّ هذا الموضوع كان الأكثر إثارة لي في هذه الدورة، و زاد إثارتي و شفقتي على بلدي عندما ذكر المُحاضر أن عدم احترام القضاء و أحكامه بواسطة السلطة التنفيذية، يهدم كل مبادئ دولة القانون، و إن وجدت جميعها. و زادني كيلَ بعير من الألم عندما أخذ يعدد الآثار السالبة لعدم تنفيذ أحكام القضاء، حيث جملها في:
1/ إنهيار مبدأ سيادة القانون، حيث يصبح القانون بلا قيمة. فإذا كانت مهمة القضاء تطبيق القانون و مراقبة أداء السلطة التنفيذية، فما فائدته إن كانت أحكامه لا تُنفذ؟
2/ إضعاف الثقة في القضاء من قبل المواطنين، مما قد يتسبب في تهديد الأمن عندما يلجأ البعض إلى وسائل غير قانونية لاسترداد حقوقهم.
3/ إستغلال الفاسدين لعدم تنفيذ أحكام القضاء، فيتمادون في فسادهم..
4/ التأثير السلبي على الاقتصاد، بإضعاف الاستثمار، خاصة الأجنبي، فالمستثمرون سينفرون من دولة لا تحترم سلطتُها التنفيذية سلطَتَها القضائية، مما يهدد استثماراتهم بالضياع.
5/ كثيرًا ما ينطوي عدم تنفيذ أحكام القضاء على انتهاك لحقوق الانسان، مثل حق العمل. كذلك ينطوي على الحرمان من تعويض مستحق..
و غير ذلك من الآثار السالبة التي عددها المحاضر، فتنفيذ الأحكام القضائية و احترامها، ليس مجرد التزام قانوني، إنما هو ضمان لسلامة الدولة و أمنها، و ضمان لاستقرارها، و حماية لحقوق و حريات المواطنين..
ختم صديقي حديثه لي قائلًا: حقيقةً، عندما تذكرتُ قضيتكم، كنتُ غريبًا في تلك المدينة، فإما أن أصمت، أو أن أقدمَ لهم أسوأ النماذج كوجهٍ آخر لدورة دولة القانون.. فآثرت الصمتَ و الإنزواء..
*بابكر الشيخ الأُسيْد*
27 فبراير 2025م
*(الذكرى الخامسة للمجزرة)*