أعمدة الرأي

أُسَيْدِيات الثلاثاء عثمان الشيخ الأُسيْد يكتب من الذي بدأ الحرب في السودان؟

 

(المشهد الأول)

رجلٌ سودانيٌ في السبعينات من عمره، جاء إلى السعودية في زيارة لابنه، تعرفتُ عليه في المسجد، دعوته لشاي المغرب فاستجاب مشكورًا، وبعد الأسئلة التقليدية، قال لي: حظكم أنتم هنا مرتاحين ونحن هناك مع الرصاص والدخاخين، كان هذا الكلام في عام 2023 قُبيل الحرب. قلت له، مستغربا: أين هذا الرصاص والدخاخين؟ ووالله كنتُ صادقًا في سؤالي، لأنه- عندما قال لي ذلك- ظننتُه قادمًا من اليمن أو من ليبيا أو من سوريا أو من العراق. قال لي: كمان تسالني اين ح يكون وين يعنى؟ طبعًا عندنا هناك في السودان، يقصد المظاهرات وفضها. قلت له: لا يوجد رصاصٌ ولا دخانٌ في السودان، ولكن طالما قلتم ذلك فسوف يكون. هذا الرجل يسكن في حي النزهة في الخرطوم في منزل مميز به من أشجار وحديقة وعصافير. علمت الآن أنه تم طرده من بيته بالرصاص، واشعلوا النيران في حديقته فسمع صوت الرصاص بأذنيه ورأى الدخان بأم عيبنه {البلاءُ موكلٌ بالمنطق}

(المشهد الثاني)

وهذا رجلٌ آخر، وأيضا قادم زيارة وأيضا في عام 2023م، تقابلنا في مناسبة، سألني احد الحضور عن مشروع المسحنة (مسحنة باهرات) قلت له: شغالة تمام والحمدالله. تداخل هذا الرجل قائلا: مسحنة وين؟ قلت له: في الخرطوم، قال: تسحن ماذا؟ قلت له: كل أنواع البهارات، قال: ياخي من يشتري بهارات؟ نحن في الخرطوم الملح ما عندنا ليهو مقدرة، قال لي ابنُ اخته: خالي هذا يملك مالًا ومزارعَ، وبيتُه لا ينقصه شيءٌ من بهارات ولحوم وطيور وأسماك وفواكه، حتى الآيسكريم متوفرٌ في منزله على مدار العام. الآن هو وعائلته في السعودية محشورين مع بنته المتزوجة في شقة تتكون من غرفتين وصالة، وبيته في الخرطوم يسكنه الجنجويد بعد أن استمتعوا بالبهارات واللحوم والأسماك وحتى الآيسكريم.. {لبلاءُ مُوكلٌ بالمنطق}

(المشهد الثالث)

من الشارع السوداني، (الحالة زفت، الموت أحسن.. لا حرية ولا سلام ولا عدالة.. أمن ما في.. الحكومة فاشلة) كل هذه العبارات، وغيرها من مفردات سالبة ملأت فراغات الوطن وتمكنت وأصبح الجوُ السائدُ معتمًا مظلمًا متشائمًا، جاهزًا للإحتراق والانفجار والدمار في أي وقت، وقد تم التنفيذ بالفعل: إنعدم الأمن.. هربت الحرية.. إختفى السلام.. تحقق الفشل، وانتشر الموت { البلاءُ مُوكلٌ بالمنطق}

نحن في الغالب لا نربط الأحداث بعضَها ببعضٍ، لعدم إيماننا بتعاليم ديننا. نحن نقرأ القرانَ دون تدبرٍ، ونحب الرسولَ- صلى الله عليه وسلم- بالعاطفة فقط لا بالعقل فلا نتبع هديه إلا بما وجدنا عليه الاقدمين، وأي نص قرآني، أو هدي نبوي لا ينبغي أن يفهمَ بغير ما فسره الأولون، وإلا فهو بدعة وخروج عن الملة، وبهذا نكون سببًا في كل ازماتنا، لأن العقلَ المسلمَ قدَّم استقالته وتوقف عن العمل.

الذي أطلق رصاصةَ الحرب وأشعلها، هم المتشائمون أصاحبُ الاقوال السالبة. إنَّ الرجلَ قد يتكلم بالكلمة فيصيبه بلاءٌ، وِفقَ ما نطق وتكلم به، وهذا صحيح، يشهد له كثيرٌ من النصوص الشرعية، والوقائع والحوادث في القديم والحديث، والمغزى من هذا المثل: تحذير الإنسان من النطق بالسوء، أو أن يستفتحَ على نفسه بشر، أو أن يتشاءم بأمر، ويطلق ذلك في مقاله ونطقه، حتى لا يُبتلى به عن ابن عباسٍ رضي اللَّهُ عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّه، فَقَالَ: كَلَّا، بَلْ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، كَيْمَا تُزِيرَهُ القُبُورَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :فَنَعَمْ إِذًا.. إنتهى الحديث الذي معناه أن الرجلَ اعترض على عبارة ( لا بأس طهور إن شاء الله) وقال : كَلَّا، بَلْ حُمَّى تَفُورُ، فقال الرسول ( نعم إذًا) يعنى نعم سوف تكون حمى تفور. بموجب منطقه.

إستمعوا لهذه الواقعة:

عن يحيى بن سعيد، أن عمر بن الخطاب، قال لرجل: «ما اسمك؟» فقال جمرة، فقال: «ابن من؟»، فقال: ابن شهاب: قال: «ممن؟» قال: من الحرقة، قال: «أين مسكنك؟» قال: بحرة النار، قال: «بأيها؟»، قال: بذات لظى، قال عمر: «أدرك أهلك فقد احترقوا»، قال: فكان كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.( يعنى فعلا قد احترق اهله) فلا نضيع وقتنا في اتهام جهات معينة بإشعال الحرب، مهما كانت هذه الجهة فهي سببٌ وليست نتيجة، فلا تُقدِّموا العربةَ على الحصان. إدركوا السودانَ، فقد احترق بما كنتم تنطقون.

والله أعلى وأعلم

3 يونيو 2025م

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!