أُسَيْدِيات الثلاثاء عثمان الشيخ الأُسيْد يكتب في قبضة الشرطة العباسية

خبر عاجل!! (الشرطة العباسية تعتقل شخصين من السودان مجهولي الهوية) إنتشر هذا الخبرُ وسارت به الركبان وأصبح حديثَ المجالس، ونُسِجَت حوله القصص و الإشاعات، منهم من قال إنهما من سودان البصرة.. منهم من قال إنهما من سودان اليمن.. منهم من قال إنهما من سودان الحجاز، وأنهما جاسوسَيْن يعملان لمصلحة أبا مسلم الخرساني.. منهم من قال إنهما جاسوسَيْن لبني امية. في الواقع لم يكن هذان الجاسوسان إلا (يوسف وأنا) كيف حدث ذلك؟ بينما كنا في مطعم من مطاعم شارع الرُصافة في بغداد، دخل الي المطعم رجالٌ من الشرطة العباسية بلباسهم الأسود المهيب وعِصِيَّهم الغليظة وكلابهم البوليسية الضخمة، توجهوا نحو نادل من ندلاء المطعم فأشار إليهم نحونا، فتوجهوا إلينا مباشرةً ودونَ أن يتحدثوا إلينا، قام الشرطيُ بتقييد يدي اليمنى مع يدِ يوسف اليسرى، وقادونا سيرًا على الأقدام إلى مقرٍ حكومي عليه لا فتة بعنوان (امين شرطة بغداد) لماذا؟ ما هو السبب؟ القصة كالتالي: بينما نحن في انتظار الطعام كان بجوار مائدتنا رجلٌ كفيف، قال لنا: إن لهجتكما غريبة، فمن اين انتما؟ قلنا له: نحن من السودان.. قال: نعم، أنا كفيف لا أستطيع ان أُميِّزَ لونكما، ولا يهمني أن كنتما من السودان أم البيضان أو الصفران، ولكنني أقصدُ من أي البلاد انتما؟ قلنا له من السودان!! ثم سألنا: هل أنتماعربيان؟ قلنا له: نعم. قال: ولماذا- إذن- لا تفهمان سؤالي؟ سوف أوضح لكما أكثر، ثم نادى باعلى صوته، إن كان في هذا المطعم عاملٌ من السودان فليأتني فورًا، فأتى شابٌ اسودُ من العاملين في المطعم، فقال له الكفيف: أنت من السودان؟ قال الشاب: نعم. ساله الكفيف: من اين؟ قال الشاب: من سودانِ الكوفة، فقال لي الكفيف: هل فهمت؟ قل لي الآن، من أي السودان انت؟ هنا تدخل أحدُ العاملين في المطعم فقال للكفيف: هما متحفظان على ذكر بلدهما، وكلما سألهما أحدٌ، من أين أنتما، أجابا: نحن من السودان، ولا يريدان الإفصاح باسم بلدهما
وانتشر الخبرُ في بغداد، أن زائرَيْن من السودان متحفظين ولا يذكران اسم بلدهما، مما اثار الشك في نفوس البعض
وصلت معلومة وجود جاسوسَيْن من السودان في بغداد إلى الخليفة العباسي، فأصدر أوامره لأمين الشرطة باعتقالنا، والمثول امامه شخصيًا. وحدث ما حدث
سأختصرُ لكم كل الإجراءات والتحقيقات والترتيبات التي سبقت مقابلتنا للخليفة، وندخل مباشرةً إلى قصرِ الحكم في بغداد ونحن مقيَّدَيْ الأيدي. ويا للهول! ويا للأبهة! ويا للهيبة
عند مدخل الإيوان وعلى يمينك تشاهد مكان “النطع والسيف والسياف” مكان تنفيذ حكم الإعدام في العصور القديمة، حيث يتم وضع المحكوم عليه على “النطع” وهو بساط من جلد، ويُنفذ فيه حكم الإعدام بـ”السيف” بواسطة “السياف” (الشخص الذي يقوم بقطع الرأس بالسيف).ثم مدخلٌ كبير يؤدي إلى “السرة” أو “سرير الخلافة”. حيث يجلس الخليفة ويقف وحوله عددٌ من العبيد من الفرس والحبش والروم والصقالبة يهببون له بالهبابات اليدوية، ويجلس بجانب سرير الخليفة (يمنة ويسرى) كثيرٌ من الشخصيات من الأمراء والوزراء والمستشارين والفلاسفة والشعراء، وغيرهم من المقربين للسلطان
كان يوسف يتكلم بكلامٍ من دون صوت، فقد جفَّ ريقُه ويَبِس حلقُه وانقطع صوتُه تمامًا، كان يتكلم بلا صوت ويبكي بلا دموع، فهمتُ من تعابير وجهه أنه يحتج ويرمي اللومَ عليَّ وأنني السبب، ولولاني، لما كان هو في هذا الموقف
وقفنا أمام الخليفة، فقال للحداد: فُكَّ قيدهما. فك الحدادُ القيدَ، ثم قال لي الخليفة: لماذا يرتعد أخوك هذا خوفًا، بينما أنت رابط الجأش؟ هل هذا استصغارٌ بملكي واستخفافًا بهيبة الدولة، أم ماذا؟ قلت له: لا وحفظكم الله يا أميرَ المؤمنين، ولكن ذلك لأنني أعرف حلمَكم وحكمتَكم وعفوَكم، وأنكم لا تأخذون الناسَ بالشبُهات، وشرُّ الحكامِ من يخشاه البري، ويقول (جدكم) رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- (إنَّ شرَّ الناسِ عندَ اللهِ منزلةً يومَ القيامةِ مَن تركه الناسُ اتقاءَ شرِّه) ظهرت على وجه الخليفة علاماتُ الارتياح والرضا، ( السلاطين يحبون من يمدحهم ومن يدعو لهم ومن يضحكهم) ويُذْكر أن الملوك لا يحبون ثلاثة أشياء (القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم) ثم التفت الخليفةُ تجاه الحضور يريد رأيهم، فرفع احدُهم يدَه يريد المداخلة، قال له: قُل يا أصمعي ماذا عندك؟ قال الاصمعي: ما أجمل (الواو) يا مولاي في عبارة ( لا.. و…حفظكم الله) عندما قلتَ له (لماذا لا يرتعد أخوك هذا خوفًا بينما أنت رابط الجأش؟ هل هذا استخفاف بملكي وهيبة الدولة، أم ماذا؟) فقال لك: لا (و)حفظكم الله، لولا هذه (الواو) لكانت العبارة دعاء عليكم لا لكم، هزّ الخليفةُ رأسه، دليل الموافقة والاستحسان
أشار الخليفة إلى القاضي بأن يتولى التحري معي، فسألني القاضي: من أين انت؟ قلت له: من السودان. إبتسم الخليفةُ وضحك كلُ من في المجلس (كيف أقول أنا من السودان وهذه هي التهمة التي ساقتني إلى هنا؟) إلتفت الخليفةُ الي القاضي، وسأله: هل انسلخ السودان عن بقية ألوان البشر وأقاموا دولةً خاصةً بهم وسموها على لون بشرتهم (السودان) ؟ أجاب القاضي: لم أسمع بذلك من قبلُ يا مولاي!! وسألني القاضي: أين تقع أرض السودان؟ قلت له: تقع جنوبَ مصرَ، و تحدها من الشرق إثيوبيا ومن الغرب لييببا، ثم سألني القاضي: وهل شرطًا على من ينتمي إلى السودان أن يكونَ سودان، أي اسود لون البشرة؟ قلتُ له: لا، ليس شرطًا. فقال لي: إذًا لماذا تحتكرون الإسم للسودان فقط وفيه ألوانٌ غير السودان؟ ثم أنتم كيف رضيتم أن تكونَ هويتُكم مجردَ لون؟ وإلى ماذا تنسبون تاريخَكم وأمجادَكم وآثارَكم، والنبلاءَ من رجالكم و الأبطال؟ قلت له: ننسبها الي السودان!!قال لي: وأين أنتم من هؤلاء السودان، كيف تجيّرون مكتسباتكم للسودان؟ أليس في هذا ظلمٌ لأنفسكم؟ ألم تعلموا أن أسوأ أنواع الظلم هو ظلمُ الإنسان لنفسه؟ إتقوا اللهَ في أجيالكم القادمة. ثم سألني القاضي: ألا يُوجد في أرضِ السودان علماءُ وشيوخٌ يُعلّمون الناسَ وينصحونهم ويرشدونهم إلى الطريق الصحيح؟ قلت له: معظم أهلِ السودان لو قلتم لهم هذا لن يقبلونه، بل معظمهم يقول لك إنه يفتخرُ ويعتزُ باسم السودان،. قال القاضي:لماذا هذا التمسك الغير مبرر وما شأنُ الاعتزاز والافتخار باللون، إجعلوا لوطنكم اسمًا يُعرفُ به، وجنسيةً تنتمون إليها كبقية الشعوب، ثم بعد ذلك من أراد أن يفتخرَ بلونه، فليفتخر ما شاء له الافتخار سواءً كان من السودان، أو من البيضان أو من الصفران
رفع احدُ الحضور يدَه يريدُ المداخلةَ، فقال له الخليفة: ادلو بما عندك يا أبا الأسود الدؤلي، فقال: السلام عليكم يا سيدي اميرَ المؤمنين، ثم قال: لا بد أن يكون لكل شيءٍ اسم، والسودان ليس إسمًا، وإنما هو جمعُ مذكرٍ سالم لكلمة (سود، سودان.. بيض بيضان صفر صفران..) وهكذا، أما أن يكونَ اسمًا لدولةٍ، وأن يكونَ هويةً لبشرٍ، فهذا من غرائب الأشياء. الإسمُ ليس مجرد كلمة، بل هو وسيلة للتعرف على الشيء، وهو جزءٌ من هوية الشيء. الإسمُ يساهم في تشكيلِ هوية الوطن ويؤثر على نظرة الآخرين إليه، ولا يخفى على الجميع كيف تكون نظرةُ الغير لمن لا إسم له أو لمن أسمُه مثيرٌ للجدل، ولنا في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هدي في تَخَيُّر الأسماء. وطنٌ لا إسمَ له لن تقومَ له قائمة، ولأهمية الإسم، علّم الله تعالــى أبونا ادم الأسمــاءَ كلها (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)البقرة 31 لذلك لابد للوطن ان يكونَ له اسمٌ، وله مغذى ومعنى، إسمٌ يعتزُ ويفتخر به أهلُه بدلًا عن الافتخار بلونهم، هذا اللون الذي يشاركهم فيه كل المخلوقات أحياء وجمادات. لو كنت تفتخر بأنك سوداني، لأنك أسود، فهذا يحق لكل مخلوق أسود سواءً كان من الأحياء أو من الجمادات، ومن حقه أن يتغنى وينشد ويترنم (أنا سوداني انا) وليس من حق كائنٍ من كان، أن يمنعه من ذلك. قال له الخليفة: أحسنت.
شخصَ آخر يريد المداخلة، قال له الخليفة نسمع منك يا أبا بكر الرازي( الطبيب الفيلسوف وعالم المنطق) قال الرازي : إن إقناع الناس بالحقائق يحتاج إلى مخاطبة العقول ومخاطبة العقول ليس كمخاطبة العواطف، مخاطبة العقول ليست بالأمر الهين، لأنها تهز ثوابتَ، وتحرك مرتكزات وتُزَعزعُ اركانًا ظنَّها الناسُ مسلماتٍ لا يمكن التخلي عنها، حتى لو كانت ضارة ومهما كان البديل نافعًا، لأن قاعدة (هذا ما وجدنا عليه آباءنا) تجري في عروق الناس مجرى الدم، ثم التفت نحوي وقال: إن الامرَ يحتاج إلى صبرٍ ومواصلة وعدم استسلام، وتحمل اذى الناس وكلامهم، وتذكَّر أن كلَ من يحمل رسالةً له اعداء. الرسول- صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، كان معروفًا لكل قريش بأنه هو الأمين، وأنه الصادق، وبعد الرسالة أصبح له أعداء، فصار هوالكاذب والساحر والكاهن. قال له الخليفة أحسنت
ثم وجه القاضي حديثه الى الخليفة قائلا، مولاي اميرَ المؤمنين، قد ثبت ان هناك سوء فهم في الموضوع، وإن سمح لي مولاي أن أحكمَ في هذه القضية. أومأ الخليفةُ برأسه دليلَ الموافقة، فقال القاضي: إنهما بريئان وأنهــما من بلد اسمــــه (السودان) ولا ذنبَ لهما في ذلك ولا علاقة لهما بثورة ( الزنج) في البصرة التي عرفت بثورة السودان، و لا علاقة لهما بتجاوزات سودان المدينة المنورة وما ارتكبوه من سرقة واغتصاب أثناء غزوة الحرة، لذلك أرى- والرأي لكم- أن يُطلقَ سراحُهما
قال لي الخليفة العباسي: سلنى ماشئت. هنا وقف أحدُ الحضور وقال لي بأعلى صوته: أُطلب كلبَ صيدٍ! قهقه الخليفةُ وقهقه كلُ من في المجلس، وقال له الخليفة: إجلس يا أبا دلامة، قاتلك الله
ما هي قصةُ كلبِ الصيد التي أضحكت الخليفةَ والحضور؟ وما ذا أعطاني الأمير؟ هذا ما سنعرفه في الحلقةِ القادمة، إن كان في العمرِ بقية، فابقوا معنا يوسف وانا
17 يونيو 2025