همس الحروف الباقر عبدالقيوم يكتب دموع سخينة ذرفها الرجال لينعوا بدفقها الفياض الأخ عثمان عوض السيسي

مصيبة الموت من أعظم مصائب الدنيا و تظل حقيقة صادمة و صعبة على النفس البشرية لا يتقبلها العقل أبداً لاسيما لحظة وقوعها و لا يتمناها الإنسان مهما كان السبب ، فالموت يأتي إلينا بغتة ، يخطف من اراد أن يخطفه في لحظة و يخلف من بعده ذلك فراغاً ضخماً لا يسده إلا الحزن ، فهو لا يرسل إشارة فينذرنا بها ، ولا يطرق لنا باب ليستأذن الدخول من أحد ، فهو حقيقة قاسية ، و صادمة لا يرحم صغيراً ، و لا يوقر كبيراً فهو أكبر مصيبة تحل بالإنسان على الإطلاق لقوله تعالى : (فأصابتكم مصيبة الموت) ، فهو أمر جلل و قد عرٌفه الله عز وجل بعبارة المصيبة ، و تقبٌُله يظل أمراً قاسياً مهما كانت قوة العقيدة التي يتحلى بها المفجوع من صدمته ، و لكن أصحاب العقيدة الراسخة يخففون على أنفسهم و من حولهم من حدة وقع هذه الإبتلاء بكلمات قد نجد فيها سلوانا بإعتبار أن الموت حق إيماني نافذ لابد من حدوثه لقوله تعالى : (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) .
فعندما يطرق الموت باب أحدنا و يُفقدُنا حبيباً كان يُشاركنا حياتنا بأدق تفاصيلها ، هنا تتهيج عندنا المشاعر و تتحرك معها العواطف ، فيتلبسنا الحزن بكل مظاهره كلما مر بنا موقفٍ نلتمس فيه لمفقودنا فيه ذكرى ، فهي محطة من محطات الألم يجد الإنسان نفسه متوقفاً عندها بدون إرادته و أحياناً بدون وعي ، و عند ذلك يتقاذفُنا في عتباتها الألمُ من كل جانب و سيحل بأهل المفقود و صحبه سيلاً جارفاً من المشاعر المتداخلة التي تعبر عن مدى قوة الحزن الذي يتجرعونه المفجوع من علقم الفراق المر .
جرت العادة في كل كتاباتي حينما أكتب في مثل هكذا مواقف ، فكنت أكتب عن أناس أعرفهم معرفة وثيقة و تربطني بهم مواقف و صلة لها وقع في حياتي إلا هذه المرة أجد نفسي أكتب عن شخص لا أعرفه ، إلتقيته بصورة عابرة مرة أو مرتين ، فلم تقع بيننا صداقة أو حتى معرفة (على الماشي) ، و هذا من سوء حظي ، و لكني سعدت بلقائه لأنني كحلت عيني برؤيته الضاوية ، و حزنت أيضاً لأنني لم اتعرف عليه طيلة وجودي هنا ، و لم أوثق علاقتي به ، حتى رحل أول أمس عن دنيانا الفانية ، فظللت سماء دنقلا سحابة حزن ضخمة فأظلمت و فخلفت ورائها حزنا جديداً أسوداً أتي إضافةً على الحزن الذي نعيش فيه بسبب الحرب ، فخيم سواد تلك السحابة الحزينة على أهله و جميع معارفه وأصدقائه وزملائه ، فوجدت كل واحد منهم قد أخذ ركناً قصياً بعيداً عن الناس ليعبر بطريقته التي تريح نفسه مقابل هذا الفقد الجلل الذي اصابهم ، حتى أفقد الحزن عقول البعض (المنطق) حتى كاد أن يخرجهم عن ضابطهم العقائدي و حواشي إيمانهم ، فكلهم حزنوا عليه ، و عددوا لمآثره و محاسنه ، و نقاط سيرته العطره ، مؤكدين انه كان رمزاً من رموز البشاشة و خفة الظل و سعة الصدر و الخلق الحميد ، و الوقار الجم ، و قد تابعت على مدار الثلاث ايام المنصرمة كثير عما قيل عنه فعجبت لذلك الوصف الدقيق الذي يحمل في طياته قيم الإنسانية القحة بدون رتوش ، و عندها ألتمست قيمة الرجل الإعتبارية في دموع كل من بكى عليه ، حتى وجدت نفسي سابحاً في بحر متلاطم الأمواج من الدموع التي ذرفها عليه إخوان له لم تربطهم به صلة رحم أو دم ، منهم الأستاذ عبد المنعم عبد الحميد الشهير ب (مكيرم) ، و الأستاذ علي ذكي ، و د. خالد حسين و الأستاذ أمير حسين ( فونج) و الأستاذ الإنسان عبد القادر محمد سعيد ، و د. مرتضى مكي ، و د. معتز مصطفى و أستاذ الباقر الطاهر و آخرون كثيرون قد لا يسع المجال لذكرهم او حتى إني لا قد أعرفهم ، فنعوه بعمق و بألم و بأسى شديد و نقلوا لي ما يجيش بمشاعرهم الدافئة من حزن ، حتى تجرعت معهم مرارة الألم و قساوة الفراق و عظم الفقد ، و هم ما زالوا يحتفظون له بجميل مشاعر سيجمدونها له في ثلاجة الزمن ليذيبوها على مراحل في أي موقف يحمل ذكراه .
ألا رحم الله أخي عثمان عوض السيسي الذي ظل عطاؤه الفكري والثقافي يثري مجالس المدينة بصورة عامة و المعزيين على وجه الخصوص الذين تقاطروا إلى منزله ليعزوا أنفسهم في فقده قبل ان يعزوا أهل بيته .
اللهم أرحم عبدك عثمان السيسي الذي كان مشاركاً فاعلاً في إثراء الساحة الإجتماعية و الفنية ، فكان مبدعاً في كل شيء ، و كما كان حمامة مسجد ، قل أن تفوته تكبيرة إحرام ، سيما وأنه كان المؤذن الذي كان ينادي بصوت الحق (حيا على الصلاة و حيا على الفلاح) فنحسبه بذلك من طوال الأعناق يوم القيامة إن شاء الله و ونحسبه كذلك و الله حسيبه و لا نزكي على الله أحد و وكما قيل في الأثر:(ما شهد الناس على شيء إلا شهدت به الملائكة و كان الله شهيداً على ذلك) ، فقالوا عنه انه كان حنيناً و بارعاً في كسب الأخوان ، و بساماً في وجوههم و ضحوكاً يخفف بقفشاته ما يكدر حياتهم ، و ما يزيدنا إطمئناناً عليه ما ورد في الأثر القائل : تبسمك في وجه أخاك صدقة ، و هنيئاً لكل من ادخل سعادة في قلب إمرئ ، أسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته و عظيم مغفرته ، وأن يحشره من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا و أن يجعل البركة في ذريته و أهله و جيرانه إلى يوم الدين و أن يخفف وقع الصدمة عليهم و على كل من يعرف فضله و أن يلزمهم الصبر الجميل و السلوان و أن يرزقهم حسن العزاء ، و عزائي موصول لجميع أهل دنقلا قاطبة ، و أخص بالعزاء آل السيسي ، و إنا لله و إنا إليه راجعون ولا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .