طاهر محمد علي طاهر يكتب الأبيض عروس الرمال.. حينما تشّعُ ذكراها.. ((الحلقة التاسعة)) محمد عثمان الحلّاج.. الأيقونة.. والمأساة.. والعشق

ما أستعذّب أهل الابيضّ خاصّة وكردفان عامّة ، ما أستعذبوا شخصا ونّاسا ، عميقا ، رقيقا في حواشيه غير الحلاّج .. يمتّع الحواسّ بالقول المقفّى والمنثور ، وبالرقائق واللّطائف ، وتجسيد الحكايات ، والأمثلة الموغلة في العامّيّة ، والغارقة في الحكمة، يجمعها الحلاّج في حلّه وترحاله، وسفره الطّويل في الرّيف والبوادي والحضّر ، من سالف الأزمان ، وحاضر اللّحظات، حكاوي بالسّاعات الطّوال لا تملّها ، فهي مسرفة في البهجة والإمتاع .. ومن وصفه أصبح مضربا للأمثال والأقوال .. يقوّلون لك كما قال الحلاّج .. لينتهي الكلام .. نقطة .. سطّر جديد.
يصف الإمام المهديّ بالخدمتو درقة وسيف وخيل، والشّاعر ودّ القرشي بأنّ عمامته بين الرّجّال لواء ، وأهل الشّام ببستان الورود. عجيب هذا الفيلسوف ، الّذي يضع نفسه في خانة المثقّف العضويّ، وظاهرة كردفانية ذات أثر، وموهبة متفرّدة صقل عودها بالإطلاع والقراءة ، ونهم المعرفة ، زاده المسرّح خيالاً ، والتّراث انتماء ، وكردفان عنده عشق وحكاية ، والسّينما زادت معرفته بلغة الفرنجة ومذاهبها، فتجدّ في لسانه العربيّة والانجليزية والطّليانيّة واليونانيّة .. قاموسه حاضر بأشروحاته..
الحلاّج.. مسافر زاده الخيال والجمال .. وصوفي معذّب ، وراهب في دير الثّقافة . أطرق باب بيته أو أدخل بلا إستئذان، ستجده غارق في بحور الكتب وقصّاصات الورق، ولفائف الجرائد القديمة المهترئة، وعلى نوافذ الصّالون العتيق بعض من الكتب وأمّهاتها ، بعضها فوق بعض، ينوء بحملها “سلك النّمليّ ” المشدود علي الشّبابيك .. كتب ذات غلاف منزوع، وأغلفة مرقّعة زارها الخريف، وغسل غبارها المطر ، فأصبح لون صفحاتها بني غامق، معطونة من زمان بعيد، كأنّ الأجداد بعثوها رسائل خاصّة إلى الحلاّج الحفيد، تجده غارق في وسط الصّالون بجلبابه القصير وساقيه الطّوّال على بساط مفروش، أو متّكئ عليّ راحة يده وعلى جنبه يحاور مؤلّفيها، أو مستلق على ” عنقريب ” تكاد حبّاله تئنّ من شدّة تقلّبه عليها، فالحلاّج وكتبه ومؤلّفيها وكلّ ثقافات العالم عبر الأزمان جميعها أثقلت كاهله .. وما للعنقريب من قدر غير أن يكوّن مرافقا له.
آخر ماحظيت به في منزله هذا الصّالون، وكانوا ثلاثة، أولهم الصّالون الكبير، ثمّ الصّغير، وصالون العربان أو حوش العربان .. البيت مشرع الأبواب، متّسع الصّدر للضيفان في كلّ خريف وصيّف وشتاء.. ناره متّقده، والتكل ” بوفيّه مفتوح “.. صباحا وضحى، ظهرا ومساء ..
أخي الحلاّج إنا نحبك جميعنا، وأحببناك لأنك تعيدنا وتذكّرنا بأقوال الشّاعر سيف الدّين الدّسوقيّ :
لي في الدّيار ديار كلمّا طرفت عيني .. يرفّ ضياها في دجى هُدبي وذكريات احبائي إذا خطرت.. أحسّ بالموج فوق البحر يلعبُ بي
شيخ كأنّ وقارّ الكون لحيته.. وآخرون دماهم كوّنت نسبي
وأصدقاء عيون، فضلهم مدد.. إن حدّثوك حسبت الصّوت صوت نبيّ
أمي التي وهبّت حرفي تألقه.. تجئ رحمتها من منبع خصب
وإن تغيب في درب الحياة أبي.. قامت الى عبّئها أيضا بعبء أبي
والنّاس في وطني شوق يهدهدهم.. كما يهزّ نسيم قامة القصب
والجار يعشق للجيران من سبب.. وقد يحبّهم جدا بلا سبب
النّاس أروع ما فيهم بساطتهم.. لكنّ معدنهم أغلى من الذّهب
على تخوم فولة الحلب مدخل القبّة الشّمالي الشرقيّ ، أو سمّها القبّة شرق الخور، يرتمي البيت غير بعيد من شيخ الاندية ” نادي الخرّيجين” ومكتبة الأبيض العامّة قبل أن تحترق وتزال، ليحلّ مكانها مجلس الشّعب الإقليميّ، والاتّحاد الاشتراكيّ، ومن ثمّ لاحقا المجلس التّشريعي، ويفخر الحلاّج بأنّ منزلهم يقع بين الخورين “خور السّوق”، و “خور القبّة”، وهما بمثابة الحدود الشّرعيّة والجغرافيّة الأولي الّتي نشأت بينهما الأبيض، وحول الخورين كانت الآبار والمنطق يقول أنّ الحضارات نشأت عليّ ضفاف الأنهار، وحول مصادر المياة، لذلك ما بين الخورين كانت منبع الحضارة، وماعداها كان زراعة وغابات .. لكنّ الشّيخ اسماعيل الوليّ شيخ الطّريقة الاسماعيلية أقسم أن يعمّرها بكل النّاس والأجناس، فأصبحت عمارا إلى ما أبعد من خورطقت شرقا وجبال كردفان جنوبا، وشيكان غربا ، وتجاوزت غابة فلاتة شمالا بعشرات الأميال .. ولم يكن ليتخيّل أحد في يوم من أيّام الله أن تمتلئ الأبيض بكلّ هؤلاء البشر.
هاهنا بين الخورين يوجد محمّد عثمان الحسن المكني والملقّب بـ “الحلاّج” منذ السّبعينيات، أو هكذا يعرفه النّاس في عروس الرّمال.. وسار عليه اللّقب عندما تلبسه جنّ المسرح ليجسّد مسرحيّة ” مأساة الحلاّج “، ومآسأتنا نحن أنّ الحلاّج بعيد عن قيادة الثّقافة الرّسميّة في بلادنا رغم قيادته للتثقيف والتّنوير الشّعبيّ، لكنّ الثّقافة المستلبة قد تجعل من بعضهم وزيرا لموقف سياسيّ، أو محاصصات حزبيّة، أو قصيدة مرتجلة، أو مقالة يتيمة في صحيفة بائرة، لكنّ الثّقافة أعمق من ذلك وأعظم سببا لو يعلمون..
على أيّ، يظلّ الحلاّج في الذّاكرة أقوى اثرا من غيره لانه من خدّامها المخلصين، فقد خدّمها معلما في المدارس والمسارح والجامعات، ومكاتب التّربية والتّعليم، والتّربية والتّوجيه، والدّورات المدرسيّة، والأنشطة التّربوية ، في الضهاري والحلال.
في العام 1974 – 1975 أبتعث الحلاّج الى أمّ درمان لتلقي كورس في المسرح عندما كان معلما بالمناشط التّربوية، وعرض عليه ضمن الكورس المخرج محجوب عبّاس دور ” الحلاّج” في مسرحيّة ” مأسأة الحلاّج” فأجاد الدّور لدرجة التمقص فسار الاسم عليه، ومأسأة الحلاّج مسرحيّة شعريّة ألفّها الشّاعر المصريّ صلاّح عبد الصّبور ونشرها في العام 1966م، تناول فيها شخصيّة حسين بن منصور الملقّب بالحلاّج وهي من فصلين الأوّل أسمّاه عبد الصّبور ” الكلمة “، والفصل الثّاني ” الموت “.. وتعتبر من أروع المسرحيّات الشّعريّة الّتي عُرفت في العالم العربيّ، إذ تتناول الأبعاد السّياسيّة وتدرس العلاّقة بين السّلطة المتحالفة مع الدّين، والمعارضة، كما تتطرّق لمحنة العقل، لتجئ المسرحيّة مزدانة بالصّور الشّعريّة ثريّة الموسيقى .. ولعلّ أبو المغيث حسين بن منصور الملقّب بالحلاّج نفسه كان شخصيّة جدليّة أختلف في شأنها القدماء والمحدثون، فمنهم من يراه قطبا من أقطاب الصّوفيّة، في ما يراه البعض زنديقاً، والبعض الأخر يرى أنّ مقتله في بغداد سنة 309 هجريّة أراح العباد من فتنته، وفريق أخر ينتظر بعثه وعودته إلى ضفاف أنهار العراق ” دجلة أو الفرات “، بعد مقتله بعشرات السّنوات..
أمّا حلاّج عروس الرّمال فهو صوفيّ بالسّليقة، يهزّه ضرب النّوبة والطّار، وترداد الأذكار، حيث أحاط به خلفاء الطّريقة الإسماعيلية في المناسبات، وفي المسكن، والقبّة تضوي في لياليها الحيّة، فجارهم الخليفة حسن، وعلى مسمع الحلاّج تتردّد الأذكار : ” مرحبا.. يامرحبا .. بالمجتبى خير البشر .. المنقىّ .. المصفىّ من مُضر”.
وتتوالى بيوت الخلفاء تباعا أمام أعينه، خليفة مساعد، الخليفة ابراهيم سلامة، الخليفة حسب الله، والخليفة حمدتو، والخليفة سعيد ، وفي الصّباح يصادق أبناءهم ويلازمونه في كنبات الفصل بمدرسة القبّة الأوّليّة ، وفي المساءات تتناوله حبوبة ” وناسة ” بالحيطة فتهدهده، وتحكي له أحاجيها حتّى ينوّم نوم غرير العين هانئها لترسله إلى أهله تتبعه الدّعوات بأن يحفظه الله ويغطية .
تشكّل الحلاّج في بيئات ومصادر شتّى فيها الإعتداد بالنّفس، والتّسامح وروّح القيادة والبحث عن أسرار التّاريخ من خلال جيران آخرين، فالحيّ عبارة عن ممالك، معظمهم من المشائخ والعمد والنّظّار، فأقربهم النّاظر حسين زاكي الدّين ناظر عموم البديرية، ومن بعد إبنه ميرغنيّ حسين زاكي الدّين، والسّلطان حامد جبر الدّار ” حكّام كردفان من المسبعات “، وآل النّور عنقرة ” غرب القبّة ” في تواصلهم مع أسرة الحلاّج، والعمدة الزّين وهو أحد أعمدة كردفان، وكان بمثابة نائب الحاكم الانجليزي العام، وأسهم مساهمة فاعلة في وقف الصّراعات القبليّة بين قبائل شمال وغرب كردفان، وكان يتجوّل بعربته في تفقّده للنّاس. وبحسب المؤرّخين تعتبر ثانى عربة في كردفان بعد عربة الحاكم العامّ، وتولّى نظّارة عموم البديرية بكردفان، وظلّ باب بيته مفتوحا حتّى بعد مماته، وهى الوصيّة الّتي أوصاها لابنائه في أن يظلّ الباب مشرّعا لكلّ عابر سبيل ومحتاج، وسيأتى الحديث عن العمدة في حلقاتنا القادمة، ونحن نستعرض مكوّنات حيّ القبّة .. كان منزل آل الحسن يزورهم مهدي إمام شريف، وموسى محمّد عبد القادر سلاطين باشا ، فكيف بصبيّ يافع يشاهد كلّ هذه الشّخصيّات أمامه، ويستمع لحديثها غير أن يخرج باحث بإمتيازفي تاريخ كلّ أولئك العمد والنّظّار والشّخصيّات الاعتباريّة المهمّة، فإن لم يكن معتدّا بنفسه فإنّه بلاشك سيبحر في تاريخ الممالك والسّلاطين والحضارات الّتي حكمت السّودان سياسيا، أو أسهمت في إدارته الأهليّة، ومن هنا يجئ الإحساس بعظمة التّاريخ وأهمّيّة التّراث عند الحلاّج، وما أنّ شبّ عن الطّوق حتّى تلقّفته مدرسة الأميرية الوسطى ” مسرح الآرام ” ومنبع الأداب والعلوم ، أساتذة وطلابا عبّروا بأنهارها وفصولها وصاروا من بعد أدباء وفنّانين وشعراء للمدينة، وصوتها المعبّر في المحافل .. ليصادق الحلاّج محمّد عوض الكريم القرشيّ رغم فارق السّنّ لكنّ المجايلة كانت أمرا مهماً، ليكون مدخله لعالم الشّعراء عمّنا قاسم عثمان بريمة الّذي عرّفه على الشّاعر حدباي عبد المطّلب، وما أداراك ما حدباي القادم من حلفاية الملوك، وسيّد عبد العزيز، ومحمّد عليّ الأمي، وحميدة أبو عشر، ومحمّد بشير عتيق الّذي يزور الابيضّ باستمرار، وقاسم عثمان كان رفقتهم جميعا في النّدوات الّتي تعقّد في الصّالونات، أو رابطة أصدقاء الكلمة، أو ندوة أولاد قدري، غير الذين كانوا في الأبيض من شعراء وأدباء ونشأوا بها أمثال النّور صالح حميدة، والأستاذ عثمان بخاريّ، وعبّاس ابراهيم سرور، وعبد الرّحمن صالح، وطيفور الدقوني، وعبد العزيز أحمد عبد العزيز ، ود . عبد الله اسماعيل ، وفضيلي جماع ” إبن المجلّد “، ومحمّد المكّي ابراهيم الّذي سبق الحلاّج في مدرسة الاميرية، وكانا أبناء حيّ واحد، وفي ظنّي أنّ قرب الحلاّج من شيخ الأندية – نادي الخرّيجين – وعبر نفّاجه فرقة فنون كردفان، وشرقهما نادي الأعمال الحرّة، فتح له الباب واسعا للتّألّق، ما أتاح له الإبداع والتّجلّي ليخرج ما عنده، فأعتلى خشبة مسرح فنون كردفان ممثلاً، ومن ثمّ مخرجا لعديد المسرحيّات “المفرّج مربوط ، مجاورين وبيناتكم شوق ، جرّون وقرون”، و ” ملحمة السّلطان عجبنا ” الشّعريّة الّتي تحوّلت إلى مسرحيّة تاريخية، بجانب مسرحيّة ” المشروكة مبروكة ” الدّاعية الى إسهام المرأة ودورها في التّنمية، وأستفاد من مسرح فنون كردفان ليقدّم عدداً من النّدوات والمحاضرات الّتي لا تزال في ذاكرة أهل المدينة، عن ” خليل فرح سمندل الإبداع “، و ” مشاعل الصّحو والإبانة عن الرّوائية ملكة الدّار محمد عبد الله ” صاحبة الرّواية الأشهر ” الفراغ العريض “، ومحاضرة أخري عن عرس الزّين والساموراي، وهي مقاربة نقديّة ومحاضرة بحثيّة تحليلة .. وأنتقل بهذه المحاضرات إلى طلاّب جامعة الخرطوم حيث ألقاها بقاعة البغدادي بالجامعة .. وهذا التّجلّي زاده الشوف والرؤية الّتي أتاحتها له الأبيض في زمانها الأخضر، وهو يشاهد نزار قبّانيّ يزور المدينة، والأديبة عائشة عبد الرّحمن بت الشّاطئ الّتي شاهدها عندما كان في طالبا الوسطى في الجزء الأول من ستنيات القرن الماضي، وزيارة أخرى للشّاعر عليّ الجارم.. وكثرة المنابع جعلت من الرّجل يتقدم صفوف المثقّفين، وأصبح مرجعيّة في الآداب والفنون والثّقافة، ونبع من كلّ قطرة، ولم يفته قطار الرّياضة التي كان شاهداً أيضا علي عصرها الذهبيّ في الأبيض أيّام كشولة اخوان، وعثمان الطّيّب الأوروبّي، وأولاد أبو دقق ” مكي وكرار “، وعثمان حمد النّيل وأبوسكين ، حتّى جيل وليد مكي الخليفة، ودكتور سعد، ومنصور بشير تنقّا ، وأولاد نوّار، وكثيرا ما كنت أشاهده في نادي المرّيخ مشاركاً الأفراح والتخطيط والرّؤية، أيّام مريخ التحدّي .. ويجدر ذكره أنّ شقيقه الظّافر كان أحد الإداريين الذين قدّموا خبراتهم الإداريّة لنادي المريخ أيّام رئيس النّادي مصطفي التّماري ” عليه الرّحمة “.
كان الحلاّج صديقا لمكتبات الأبيض وزبّونا معتمدا لها، وعندما لايجد ضآلته يسافر إلى العاصمة ليقتّني حصّته من الدّوريات والكتب، وعندما تعجز العاصمة عن تلبية أشواقه، يسافر إلى قاهرة المعز ليلاحق دور النّشر والطباعة هناك .. وأرتباطه بمهنة ” الورّاق” أيضا قديم حيث عمل محرّرا ومسؤولاً عن الملفّ الثّقافيّ لصحيفة كردفان مع الموسيقار المبدع الذي أنجبته مدينة بارا حافظ عبد الرّحمن، الذي لعب حارساً لهلال الأبيض، ومن ثمّ خرج بروائعه على المحافل العالميّة لنشر الموسيقيّ السّودانيّة عبر آلة ” الفلوت “..
الحلاّج راسل الصّحف القوميّة حيث نشر أولى مقالاته عن الشّاعر محمد المكي ابراهيم في صحيفة الرأي العام بعنوان ” الحفر بأصبع الواقع على سجل الإنجاز “.. إضافة أخري ولمسة من لمساته الابداعية ونظرته الثاقبة تأسيسه لنادي السّينما بالأبيض في العام 1977م وهو يعلم أنّ تاريخ السّينما السودانية ارتبط بمدينة عروس الرّمال حينما عرض أّول فيلم في الأبيض عند زيارة الحاكم العام.. الحلاّج قام بتأسيس النادي ومعه أساتذة أجلاء من ضمنهم الحاجّ الوقيع، والايطاليان البرتو مودونيسي، وكوزموس اسبادافيتشي، اللذان عملا ضمن طاقم التدريس بمدرسة كمبوني بالابيضّ، ومن المؤسّسين أيضا لنادي السينما رحمة محمّد رحمة، وحافظ محمد محمود، محمد خليل جيب الله، عمر الجيلي “عليه الرحمة “، المهندس محمد ابراهيم خليل، ويوسف عوض الباري، وإلى جانب سينما كردفان وعروس الرمال كان نادي السينما يعرض أفلاماً مغايرة تعرّف بتاريخ السينما السودانية، وأفلامها الكلاسيكية القديمة مثل ” انتزاع الكهرمان ” للمخرج التشكيلي حسين شريف الذي رحل في القاهرة، وحظيت ضمن آخرين بمشاهدة هذا الفيلم في ورشة للنقد السينمائي قبل عامين أقامها المركز الثقافي الألماني تحت اشراف المخرج الألماني السوريّ الأصل حسام شحادات الذي أبدي إعجابه بمقدرات السينما السودانية وقتها متحسراً علي توقّفها، وهي التي بدأت بهذا الألق والقوّة .. كما عرض نادي السينما أفلاما للمخرجين السودانيين ابراهيم حامد شداد، وعلي عبد القيّوم، وغيرهما.. كما عرض الأفلام الأجنبيّة، وكانت يتبع الفيلم ندوات مصاحبة، ومن مميّزات النادي أنّه ينتقل بعروضه إلى الساحات والأندية والمدن الكردفانية ، فكانت فكرة سديدة تنمّ عن نظرة مستقبلية للتّنوير المعرفي، في وقت كان الناس يحظون بهذه العروض عبر السّينما المتجوّلة لوزارة الإعلام إبان حكومة نميري، وخيرات الإعلام الجماهيري.. ومضى الحلاّج نحو إخراج الأفلام التسجيلية والسينمائية التي ترعاها بعض المنظّمات التنموية حيث ألف وأخرج فيلم ” عود بت اللحو تصوط بيهو الكسرة وتوقد بيهو الضّو” وشارك في تأليف موسيقى الفيلم الموسيقار حافظ عبد الرحمن .. والفيلم يتحدث عن دور المعلّمة في الريف ، كما أسهمت منظمة الساحل البريطانية في فيلم من إخراج الحلاّج باسم ” دقن الباشا “.. والرجل من فرط فصاحته وبلاغته لايدانيه أحدّ في ارتجال الحديث والمقدّمات فانسياب الكلام يأتيه وليد اللحظة منمّقا مرتبا تزيّنه أبيّات الشعر والأقوال المأثورة .. ولا زلت محتارا من أين خرج بالموسوعة التّيموريّة التى إختار منها :” أنّ نبىّ اللّه داؤود كان يذهب الى صحراء بيت المقدس مرّة فى الأسبوع وكان يقرأ الزبور بالقراءة الرّخيمة فيطرب الخلق .. وكانت له جاريتان موصوفتان بالقوّة والشدّة كانتا تثبتان جسده خشية أن تنخلع أوصاله “.. ليواصل الحلاّج بالقول : إنّه نبي المزامير الفنان .. وينسرب الفنّ عبر الحقب والأزمنه فينسكب اللحظة نافورة ميدان عام، حلّة معطاءة معنبرّة، وغنوة مذابة مُسكّرة، فيدوزن الجوانح، وتأتلق المسارح إنّه أوقيانوس القيمة التراثية، السمندلىّ ، الألمعىّ.. دوباى الفرح الموشىّ.. ودنقر العطاء المندّى. ومضى الحلاّج في وصفه ليقدّم بهذه الكلمات الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي ذات أمسية في نادي البنوك بالأبيض في أحد زيارات كابلي لعروس الرمال. ظلّ الحلاّج باحثا عن التراث والثقافات المختلفة في بقاع السّودان عامّة، وخاصّة القرى والحلاّل والمدن الواقعة غرب السودان ليسجّل ويكتب عن العادات والتقاليد ويخالط العرب والبقّارة والآبالة وكن جديرا به أن يوثق عن ذكرياته في البادية كما فعلها قبله الصحفيّ الراحل حسن نجيلة وأخرج مؤلّفه ” ذكرياتي في البادية “. وظلّ يوثق هذا الجهد لعدّة سنوات من ماله الخاص رغم قلة الإمكانيات، وضعف وزارات الثقافة الإقليمية .. وقد تمّ اختياره لاحقا أميناً عامّاً لمجلس الآداب والفنون بولاية شمال كردفان لكنّه لم يواصل طويلا لمعرّفتي بأنه لايحب التقييد وتنزيل التّوجيهات عليه، والأعمال المكتبية والإدارية تحد من إنطلاقه وإبداعه.. والجانب المضئ الاكثر اهمية عندي أنّ الحلاّج شاعر عبّر عن نفسه ومكنونات روحه بالقصائد التي خرجت على حنجرة بلوم الغرب الطروب عبد الرّحمن عبد الله ، وتغنىّ له بأغنيّة ” نمّ البيادر ”
في يوم مكحل بالغنا.. ونمّ البيادر
هشّن الحلوات.. اتراقصت كل البنادر
وهلّت البنية الكاسية شفق المغارب
النابعة من أصفى المشارب
حتى يقول الحلاج:
نشر الفرح طرحة حفاوته
سكب الليل سحروا وهداوته
وقالت لي البنية انا شافية روح
من زمن باقية لحروفك كتابة
وكلماتك تهوّد بي ربابة
تودّرني.. تحلّق بي سحابة..
أغنيّة مليئة بالمناجاة والشّوق وحوار الروح للروح .. ومن فلتاته وقناعاته الغريبة حديثه عن الحبّ وعزوفه حتّى اليوم عن الزواج ، إذ يذكرني الأمر بعدد من المثقّفين والأدباء الذين قضوا سحابات عمرهم في النهل من المعرفة والتزوّد من بحر العلوم، ولم يكن في حياتهم شريكاً غير الكتب .. ولكنّ مساحة المرأة في دواخلهم تشغلها فلسفة الحبّ والحبيبة الوطن أو القضيّة .
وللحلاّج رأي في الحبّ كما العقّاد وفلسفته، رغم أنّ للعقّاد ” ميّ ” التي أحبّها زمنا طويلاً، وصلاّح احمد ابراهيم ” مريا ” وجميعهم لم يتزوّجوا، ويستعين الحلاّج بقصيدة صديقه محمّد المكّي ابراهيم ” إهانات لقيس بن الملوّح ” لتعضيد رائه في الحبّ.
على ليلى يطول أساك
منتعلاً وسامة قلبك الشاعر
مطروداً أمام الريح
محتملاً جراحات الهوى الخاسر
وممدوداً على سجادة التاريخ
مائدة لكل حزين
على ليلى تجرجر في الدواوين العتيقة
حزنك الشحاذ
وترفع راية العجز الذليل
عن المنى والأخذ والإنجاز
لأنك باسم إرضاء القبيلة
وسطوة الآخر
تركت هواك للأعداء.
هل هو الأسى يا حلاّج أم دورة الأيام وقطارها الذي مضي بزمان الحب العذريّ النبيل.
سألتّه ذات مرّة عن الأمر وسرّه، فقال لي إنّ الأمر معقد والإرتباط بسودانيّة كمن يمشي حافيا في حقل من الضريسا.. فسكتُ عن الكلام المباح وتركت لمنطقه وبلاغته أن يتغلغلا في ثنايا عقليّ ، علّه يفكّ طلاسم هذا القول .. لكنّي أعلم عشقه الخفيّ بحسان المغرب وبلاد فاس “الما وراها ناس “، وحرائر الشام بستان الورود .
جاءني مرّة رفقة صديقه الدّكتور محمد المصطفي الأمين الناقد السينمائي المعروف في منزلي المتواضع بإمتداد ناصر في الخرطوم، وبعد عصريّة جميلة قضيتها في حكاوي الحلاّج، وونسة الدّكتور، إتفقنا أن نذهب إلى بعض وجهاء الأبيض المقيمين في العاصمة، الذين أفاء اللّه عليهم بالمال الوفير.. تركنا محمد المصطفي وذهبت مع الحلاّج إلى مطلبه، فقد كان يقصده لتبرّع يسهم به في إعادة تأهيل مدرسة القبّة .. وقفنا أمام البوّابة الصّغيرة ولم نحفل بالبوّابات الأخري الّتي تحيط بالمنزل .. ضغطنا على جرس الباب ليأتينا الردّ عبر ” اسبيكر” فأوضحت بأننا نريد فلان.. وأنا فلان ومعي الأستاذ الحلاّج.. أرتفعت حواجب الدّهشة عند الحلاّج، فأدخلونا عبر ممرّات، ودهاليز لنصل أخيراً إلى بهو الصالون الأنيق، المتعدّد المجالس والكرّاسي الوثيرة والفُرش المبسوطة .. وحتى تتمّ ضيافتنا أستغرق الوقت الكثير ليأتينا مضيفنا .. لمّحت الضيق على الحلاّج والاستغراب، وألفّ سؤال وتعليق، كتمت ضحكاتي لأكثر من مرّة لمعرفتي بأنّ الحلاّج لايحب هذه الرّسميات، والتّقييد فالأبيض علمته الطّلاقة والبساطة ومتى ما أراد شخصا دخل على بيته دون واسطات.. المهمّ جاءنا الرّجل فشرح له الحلاّج الفكرة على عجالة فأستجاب على الفور، وأحال الحلاّج إلى بعض مديري أعماله في مدينة الابيضّ ليستلم تبرّعه للمدرسة .. استودعناه وما أنّ خرجنا وكأنّ الحلاّج يريد أن ينفجر أو يقول بأنه لن يكرّرها فاختصرها بكلمة واحدة :” كيف يعيش هؤلاء النّاس “.. وهي كلمة أعي تماماً ماوراءها .. ولم أزد معه حتّى نخرج بعيدا لنتحدّث .. وبالفعل أكملنا قطيعتنا .. ولله في خلقه شؤون .
أخي الحلاّج لن يكفيك مقال أو بعض كلمات فأنت عندي وعروس الرّمال سيان، وفيكما من صفات بعض عشق في دواخلي ومعزّة لاتنتهي.. إليك عاطر الأمنيات. “طاهر محمد علي”