أعمدة الرأي

علوية احمد تكتب جامعة الرباط الوطني ومعركة الكرامة

 

لم يكن ذلك الصباح الجميل من يوم الخميس في شهر رمضان قبيل أسبوع من عيد الفطر، بيومين من قيام الحرب في ذلك الشارع الممتد ما بين شارع بري للقادمين على مستشفى الشرطة ومستشفى عمر ساوي، ثم جامعة الرباط، لم يكن صباحاً مختلفا عن صباحات شارع جامعة الرباط الوطني الذي يربط بين شارع بري وشارع النيل والجامعة بين ضفتيه.

الجميع في خطوات نشطة من الراجلين والراكبين سياراتهم، أو سيارات ذويهم، أو في الترحيل، كلهم بهمة ونشاط صوب جامعة الرباط.

الجميع منتظم، الطلاب بزيهم المميز (بنطال بني غامق وقميص لبنى فاتح)، وللطالبات طرحة تغطي الرأس بإحتشام، والموظفين والمحاضرين وضباط الشرطة و الأفراد. الجميع بهمة ونشاط صوب المكاتب وقاعات الدراسة بالجامعة.

لم يكن أحد من كل هؤلاء يتوقع أن هذا الصباح هو آخر صباح جميل في هذا الشارع الممتد بين جناحي مباني الجامعة الشرقي حيث عمادة شؤون الطلاب، وكليات علوم المختبرات الطبية والقانون والاقتصاد والعمارة والإعلام والدراسات العليا ودراسات الحاسوب. والجناح الغربي حيث رئاسة الجامعة وكليات الطب وطب وتقانة الأسنان والتمريض وعلوم الأشعة والطب النووي ومجمع القاعات والشئون الإدارية والمالية، والعلاقات العامة وإدارة الكتاب الجامعي والحرس الجامعي.

سيصعب وصف ما حدث بعد ذلك الصباح بيومين لجامعة الرباط والعاصمة الخرطوم والسودان عموماً. ستضيق اللغة ويعجز اللسان عن التعبير عن حجم الخراب المادي، والخراب المعنوي الذي ظهر كموجات حزن أصابت الإدارة والطلاب بعد انتشار رائحة الموت في السودان وسط مجتمعات وأهالي طلاب الجامعة وأساتذتها وموظفيها في داخل السودان الكبير، وحجم الاعتداء علي الأنفس والممتلكات خلال الحرب التي اشتعلت ثم طالت كل جميل، ونشرت الموت حتى فاحت رائحته من كل شىء، ومن كل ناحية في السودان.

كانت جامعة الرباط الوطني بموقعها المميز، ومستشفى الرباط التعليمي القرين لها، كانت من المواقع التي وضع العدو عينه عليها، وسعى لاحتلالها وتخريبها.

نعم العدو اجتهد في احتلال المستشفى والجامعة، كما احتل مواقع أخرى جوارها.

ولكن الجامعة كانت مقصودة بذاتها في الخراب المدبر والممنهج، بالنهب والحرق، لذلك ما حدث للجامعة من اعتداء ونهب وإتلاف وحرق لم يكن من لصوص، أو (شفشافة)، بل هو نهب منظم من أصحاب غرض مخصوص.

لقد طال النهب والخراب وإلاتلاف الموجودات من ممتلكات الجامعة ذات الطبيعة الأكاديمية الصرفة، والاتلاف امتد لمجموعة من الحاويات التي تحتوي أجهزة ومجسمات وهياكل طبية مصنوعة خاصة بكليات الطب والتمريض التي كانت مجهزة من سنوات للمباني الجديدة للجامعة المخصصة لكلية الطب، وكل ما له صلة بالعلوم الصحية. طال اتلاف المكتبات والمراجع وعديد البحوث الأكاديمية في جميع المستويات وسجلات وملفات طلاب الجامعة.

امتد النهب للسيارات والأثاثات والأجهزة وكل شيء ظن العدو أنه مفيد قام بنهبه، أو أتلافه.

مشاهد الخراب والاتلاف لا يمكن وصفها بأي لغة، غير أن ما حدث للجامعة نابع من قلوب مغروس فيها الحقد غرسا، وينبع الشر منها نبعا، لذلك كان الخراب والدمار هو العنوان الأبرز وسيد الموقف.

نعم التدمير والخراب أساس اللوحة، والظاهر فيما تبقى من الجامعة كل شيء منهار تماماً حتى إطلالة شارع النيل الضاجة بالحياة اعتنقت صمت العاجز بعد أن لف الموت والخراب أشجار شارع النيل ونجيل الميادين داخل الجامعة وحولها كل شيء حي أمسى ميتا يابسا وخرابا.

الأعداء أرادوا إطفاء شعلة هذه الجامعة التي اشتق اسمها من الرباط في سبيل الله الذي هو منهج الشرطة السودانية التي تملك الجامعة، وقد مر على إدارتها كبار العلماء في السودان من لدن المرحوم البروفيسور صالح يس في يونيو ٢٠٠٠٠م وحتى الفريق الدكتور العادل عاجب مديرها الحالي، ومن خلال عمر الجامعة التي بلغ ٢٥ عاما استطاعت إدارتها جعلها منارة يشع نورها على كل أرجاء السودان وخارج السودان، لذلك كان جهد العدو لإطفاء شعاع المعرفة جهد جاهل حاقد غشيم.

كان لهذا العدوان المليشي الذي تقف خلفه عديد الدول، رد فعل من الشعب السوداني المقصود بالعدوان، لذلك اشتعلت فيه الإرادة الوطنية المدافعة عن حقه ومكتسباته، وحقوق الأجيال القادمة، فلبس جميع الشعب لبوس الحرب للدفاع عن الوطن في (معركة الكرامة)، فكانت هي الترياق للعدوان.

وقد انخرط فيها جميع الشعب السوداني عونا ومساندة لقواته المسلحة بالأرواح والأموال والمعرفة.

استهدف العدو إمكانيات السودان البشرية والمادية والمعرفية، وأكبر الاستهداف كان على مواعين العلم والمعرفة ممثلة في الجامعات والمتاحف ومراكز العلم والثقافة والمكتبات ومصادر المعرفة، وجامعة الرباط الوطني في مركز هذا الاستهداف.

عندما أشغل العدو الحرب ومضى في العدوان في فترة وجيزة وقف الشعب على حجم العدوان وعدد المعتدين وأهدافهم في القتل والتدمير والتخريب والنهب.

انتبه الشعب أن الاوضاع على الأرض تغيرت، والأحوال تمضي للأسوأ، لذلك تجمع الشعب حول قواته المسلحة وخاض معها معركة الكرامة، كل فئة تشارك وتساهم بما تملك وما تعرف في ميدان الحرب، وفي ظل ظروف معقدة مستجدة في الواقع كل شيء مختلف عن ماضي ما قبل العدوان. لذلك لابد من تغيير طريقة التعامل مع الواقع الجديد.

الواقع كان يظهر أوضاعاً جديدة حيث نزح طلاب جامعة الرباط من الخرطوم للمناطق الآمنة داخل السودان، واتجه البعض إلى الخارج، وكذا الحال لموظفي ومحاضري وأساتذة الجامعة، حيث نزح الجميع بعيداً عن الجامعة وقاعاتها في بري وبحري وأم درمان. وأصبح الطالب والأستاذ كل في تنقل ونزوح ولجوء.

خلال الشهور التالية من العدوان هبت وانتفضت إدارة الجامعة كما هب الشعب السودانى، ودخلت معركة الكرامة ضمن المجتمع السوداني وجيشه، وتحركت لميدان المعركة التي تجيدها، ومن الناحية التي تليها في المعركة.

فقامت باجراءات إدارية تمكنت فيها من حصر الطلاب وتحديد مواقعهم داخل وخارج السودان، وبعد ذلك أقامت مراكز في داخل السودان وخارجه حسب تواجد الطلاب، ثم باشرت تلك المراكز نشاطها بالتدريس اون لاين وممارسة الدراسات والتمارين التطبيقية للعلوم ذات الصلة حتى مرحلة الامتحانات، والانتقال من فصل دراسي لآخر، كل ذلك والجامعة في اغتراب عن مقرها وقاعاتها ومكاتبها في بري.

الان بعد تحرير الخرطوم وطرد العدو منها بدأت المؤسسات والإدارات والهيئات الحكومية، والمواطنين في العودة إلى الخرطوم.

جاءت المرحلة المهمة في مسار الجامعة لإعادة ما دمرته الحرب، وخربه العدو الجاهل لترميم ما يمكن ترميمه، وإزالة الرماد لينهض طائر الفينيق من جديد محلقا في السماء.

ستكون مرحلة إعادة إعمار مقار الجامعة في بري وأم درمان وبحري وكل المواقع الخاصة بالجامعة أمر صعب، ولكن ليس مستحيلاً. ستكون مرحلة تحدي للطلاب والموظفين والأساتذة والمحاضرين لوضع القطار مرة أخرى في مساره لينطلق للمستقبل، وبمحطات معلومة ومرسومة، في كل محطة يصعد جيل ويهبط آخر في المحطات التالية بعد نيل العلوم والمعارف المطلوبة، وقطار الجامعة منطلق لن توقفه أية متاريس مهما عظم شأنها، بعد تجاوزه متاريس العدوان وهزيمة الأعداء وانتصاره في معركة الكرامة.

سياتي صباح قريب يعود فيه ذلك الشارع الممتد من شارع بري شرقاً مروراً بالمباحث المركزية وإمداد مستشفى الشرطة والكلاب البوليسية ومستشفى الشرطة ومستشفى عمر ساوي، ثم جناحي جامعة الرباط و شارع النيل، سيعود ضاجا بالحياة والنشاط للراجلين من الطلاب والطالبات والموظفين والأساتذة يمضون فيه في همة ونشاط صوب قاعات جامعة الرباط الوطني ليستمر التحصيل الدراسي والعطاء المعرفي، وتستمر الحياة.

———————

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!