أعمدة الرأي

تقييم الشرطة السودانية مابين الانطباعية و العلمية بقلم عمر محمد عثمان

بسم الله الرحمن الرحيم

في مثل هذه الأوقات التي تختلط فيها الدماء بالغبار، وتتشابك فيها الأصوات بين الغضب والخوف، كثيراً ما تُلقى الأحكام جزافاً على المؤسسات، وعلى رأسها الشرطة. نسمع ونقرأ ونشاهد يومياً كماً هائلاً من الانتقادات، وكأن تقييم أداء الشرطة السودانية بات حكراً على الانطباعات.

 

الواقع أن جزءاً كبيراً من هذا التقييم الانطباعي لا يراعي ما تعيشه الشرطة فعلياً. إذ نُحاكمها كما لو أنها تعمل في ظروف دولة مستقرة، بينما الحقيقة أن معظم وحداتها تعمل بلا مقار، بلا دعم لوجستي، بلا تموين، وفي ظل حرب شاملة لم يسلم منها حجر ولا بشر. نُحاسبهم على تأخر الاستجابة وكأن أجهزة الاتصالات تعمل بكفاءة، ونعاتبهم على بطء التحري وكأن المواصلات مؤمّنة والسجلات مكتملة.

 

في المقابل، لو شئنا التقييم العلمي، لتوجب علينا أن نلجأ لمؤشرات دقيقة: كم بلاغاً تم تلقيه؟ كم جريمة تم كشفها؟ كم مواطناً يشعر بالأمان في نطاق الشرطة؟ ما زمن الاستجابة؟ كم عدد أفراد الشرطة الفاعلين مقارنة بعدد السكان في المنطقة؟ هذه هي الأسئلة التي يُبنى عليها التقييم في النظم المحترفة، لا على الشعور العام أو الحكايات المتناقلة.

 

وللأمانة، بل حتى نحن، متقاعدي الشرطة، نقع أحياناً في هذا الفخ. نُسقط تجاربنا في ظروف مختلفة كلياً على واقع اليوم، ونقارن بين ما كان لدينا من إمكانيات وبيئة منظمة، وما يعمل فيه زملاؤنا اليوم تحت التهديد المستمر. هذا لا يعني أن نُكمم أفواهنا عن النقد، أبداً. فالنقد حق وضرورة، بل هو مسؤولية. لكن ما نطلبه هو أن يكون نقداً مبنياً على العلم، لا على المزاج، نقداً يُصلح لا يُحبط، ويقوّم لا يُهدّم، نقدم يقدم ويقترح الحلول لا يكتفي بإثارة المشكلات فحسب.

 

ما يحدث الآن يستدعي وقفة إنصاف. الشرطة السودانية، رغم ما فقدته من موارد ورجال، ما زالت صامدة في أكثر من ولاية، بما فيها ولاية الخرطوم. هنالك من يخرج في الدورية وهو يعلم أن لا دعم سيصله إن أصيب. هنالك من يباشر التحقيق في جريمة وهو بلا طابعة، بلا كهرباء، وربما بلا وقود للرجوع إلى أسرته. ومع ذلك، هناك من يقوم بواجبه بصمت، وبشيء من الكرامة التي لا تُرى في نشرات الأخبار.

 

نعم، نحن بحاجة لإصلاح عميق وشامل في أداء الشرطة، وإلى آليات تقييم حديثة، وإلى كادر مؤهل وتدريب مستمر، وإلى علاقة جديدة بين المواطن والشرطة تقوم على الثقة لا الخوف. لكنّ كل هذا لا يتحقق عبر جلد الذات، أو عبر تقييمات عاطفية لا تُراعي المعطيات. دعونا نبدأ أولاً من الاعتراف بالواقع كما هو، ثم نسير خطوة خطوة نحو البناء.

 

الشرطة ليست بمنأى عن الخطأ، لكنها أيضاً ليست خارج دائرة الظلم الذي يطالها من بعضنا حين نُحمّلها ما لا تحتمله. ولأنها جزء من هذا الوطن المنهك، فهي تحتاج لإعادة تقييم حقيقي، لا انطباعي، يعيد لها التوازن، ويمنحها فرصة أن تكون مؤسسة تحفظ النظام العام بحق، وتحمي المواطن بكرامة.

 

١٨ يونيو ٢٠٢٥م

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!