مقالات الرأي

أُسَيْدِيات الثلاثاء عثمان الشيخ الأُسيْد  النبلاء السودان في العصر النبوي و الراشدي و الأموي و العباسي(9)

 

كافور الاخشيدي

(المملوك الذين اصبح ملكًا) 

تقدم كافور سريعًا في المجد السياسي حتى تولى السلطةَ في مصر! كيف حدث ذلك وكيف وصل للسلطة وهو ليس إلا خادم في؟ قصرالحاكم الاخشيدي

( قال صلى الله عليه وسلم: إن الحكمةَ تزيد الشريف شرفًا، وترفع المملوكَ حتى يُدركَ مداركَ الملوك) هذا من سلسلة الأحاديث الضعيفة التي تُذكر من باب الترغيب، كما قال العلماء .. إنتهى.

قصةُ كافور من أبلغ العبر والحكم، وهي قصةٌ تُضرب في الحكمة مثلًا.

*القصة:*

هو أبو المسك كافور الإخشيدي من السودان، وبالتحديد من سودان الحبشة (إثيوبيا) كان في الأصل مملوكًا اشتراه محمد بن طغج الإخشيدي من بعض رؤساءِ المصريين بثمانية عشر دينار خادمًا في قصر الحاكم الإخشيدي. ولما يتصف به من شجاعةٍ وحصافةِ رأي، أصبح من كبار قادته، ثم حارب سيفَ الدولة.

يوصف بأنه كان أهلًا للسلطة مَهِيبًا سائسًا حليمًا جوادًا وقورا، لا يشبه عقلُه عقولَ الخدام. كذلك وُصف بشجاعته وحذقه في الحروب، وأنه كان ملازمًا لصالح الرعية وكان يتعبد ويتهجد ويُمرِّغ وجهه، ويقول اللهمَّ لا تُسلِّط عليَّ مخلوقًا، مع حلمٍ زائد وكف عن الدماء وجودة في التدبير وقد دُعيَ له على منابر الشام ومصر والحرمين وطرسوس والثغور. إستغل بحكم مصرَ سنتين وأربعة أشهر. مات سنة 357 هـ ودُفن بالقرافة الصغرى. قال يوسف: لماذا لا تذهب إلى قصرِه وتُجري لنا معه حوارًا؟ قلت: حاولت ولكنني لم أستطع، لأن الشرطةَ العباسية متجولة حول قصره طوال اليوم، ويصطحبون معهم كلاب الحراسة، و أرى أن نذهبَ إلى مكتبة دار الحكمة ونقرأ فيها عن كافور وغير كافور، لكن إقترح عليَّ يوسفُ إقتراحًا منطقيًا، قال لي: بدلًا عن أن نذهبَ إلى المكتبة، لماذا لا نختصر الموضوع ونذهب إلى المصدر الذي يغذي المكتبة بالمخطوطات والكتب، قلت له: تقصد سوق الوراقين؟ قال: فتح الله عليك قلت وعليك..

بسم الله توكلنا على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلى سوق الورَّاقين

لم يكلفنا الأمرُجهدًا، كل من تسأله يدلك على الطريق، وصلنا بأسهلَ مما يمكن و بأقصرِ الطرق وفي زمن أقل مما كنا نتوقع..

الله أكبر، دخلنا السوق، اللهُ أكبر، أول ما استقبلنا رائحةُ المداد، المداد عطرُ الرجال وحلية الكتاب. السوقُ مزدحمٌ بمحلات بيع الأوراق والمحابر والريش، وكلٌ برائحته العبقة، كل من في هذا السوق مشغول، بعضهم مشغول بالكتابة، تجدهم دائمًا في حالة نسخٍ ونقل، منهم من هو مشغول بتحميل الأوراق من مكان إلى مكان في حركة دؤوبة لا تنتهى، ومحلاتُ الترجمة المزدحمة بالتراجم والمترجمين والمترجم لهم والمترجم إليهم.. أناسٌ من مختلفِ الألوان والأحجام والأشكال و الأجناس. في هذا السوق رجالٌ وجواري، شبابٌ وكهول. الشرطةُ تتجول بين الناس بزيهم الأسود المهيب وعصيهم وكلابهم. الباعة المتجولون يروجون لسلعهم بأصوات مسموعة من كتب وعطور وتمور وماكولات عربية وحبشية وفارسية ورومية، تتسرب إلى مسامعنا أسماءٌ لها وقع في نفوسنا، ينادي احدهم يا أبا عثمان، يقصد الجاحظ، وهنا صوت يلعن ويسب، فيقول له الآخر: صبرَك يا أبا حيان، يا إلهي! إنه أبو حيان التوحيدي، وهذا الكفيفُ سمعته يتنفس الصعداء ساخطًا متشائما يقول: هذا ما جناهُ أبي عليَّ

وما جَنيتُ على أحدٍ..

علمتُ أنه ابو العلاء المعري. ثم رأيتُ رجلًا أسود، كأنه بهلوان و يشار إليه بالبنان. في هذا السوق لاحظتُ عددًا من الآباء يتخذون أبناءهم للكتابة والنسخ، ولاحظت مفارقةً في اللون والشكل بين الأب وابنه، كأن تجد الابَ قصيرًا والابنَ طويلًا، وآخر تجده ابيض وولده أسود. قلت في نفسي: صدق ابنُ الكلبي حين قال: لم يكن- في جميع الأمم- أحد ينظر إلى رجلين أحدهما قصير والآخر طويل، أو أحدهما أسود والآخر أبيض، فيقول: هذا القصير ابن هذا الطويل، وهذا الأسود ابن هذا الأبيض، إلا في العرب. (العقد الفريد) في الحقيقة كنتُ اعتقد أن ظاهرةَ تعدد الألوان والأطوال في الأسرة الواحدة، لا توجد إلا في دولة السودان فقط.

وقف يوسف وسألني: ما هذا؟ يقصد سوق الوراقين، قلتُ له: نحن في شجن العصر العباسي، وهذا العصر عُرف بالتدوين ونشط التأليفُ وكثُر الوراقون، و أصبحت مهنةُ الوراقة مهنةً منتشرةً ورائجة، وكنت تجد معظمَ العلماء والأدباء والشعراء والمترجمين في سوق الوراقين، وكذلك اخذت الترجمةُ تنمو وتزدهر في العصر العباسي و تُرجمَت، في هذه الفترة، الكثيرُ من العلوم، من الفارسية واليونانية ولغاتٍ أخرى، ولم يشهد لحركة الترجمة هذه مثيلًا في التاريخ على الإطلاق، وأشهر هذه المكتبات (دار الحكمة) وهي أول مكتبة أكاديميَّة وعامَّة تُقام في البلاد الإسلاميَّة، ويُرجِع المؤرِّخون أوَّليةَ تأسيسها إلى الخليفة هارونَ الرشيد، الذي ازدهرَت في عصره حركةُ التأليف والترجمة، والتي كان مقرها دار الحكمة..

فجأة إختفى يوسفُ وسط الزحام ولم أرَ له أثرًا، ولا زال في صدري فضولٌ لمعرفة هذا البهلوان الذي يشار إليه بالبنان، حتى التقيت يوسفَ في زحام السوق فسألته أمملوك أنت أم حر؟ كان قد أدركني اليأس في أن نلتقى، فقد ذاب وسط هذا الزحام واختلط مع العرب والعجم و السودان والصقالبة والخزر.. قال يوسفُ: كنتُ في حلقة من أجمل حلقات عمري، يتوسطها و يديرها ويسيطر عليها رجلٌ من أظرف ممن رأيتُ في حياتي، إنه أبو دلامة، الذي قلت عنه البهلوان الذي يشار إليه بالبنان قلت أين هو ؟ قال: حاولت أن أجريَ معه حوارا، ولكن إتضح أن طلباته عاليةٌ، فوق طاقتنا. إنه بهلوان الأمير مُضحك السلطان” الذي يُخرجه من عالم الجدية ويزيل عنه مؤنة التحفظ، ويخفف عنه من أخبار الثغور والمعارك، و ينسيه رهبة المنابر ومكايدات السياسة التي لا تنتهي ليدخل في نفسه البهجةَ والسرورَ والفكاهة والضحك، فالنفس تَمل وتحتاج إلى من يرفه عنها..

وحتى لا تَمل نفوسُكم، نختتم المقال.. إلى لقاء في الحلقة 10 ولازلنا داخل سوق الوراقين في بغدادَ لنعرفَ قصةَ أبي دُلامة و لنشاهدَ موكبَ الأمير، ونسمع جدلَ الناس، ونتذوقَ الفالوذج، فابقوا معنا يوسف وأنا

والله اعلى وأعلم..

 

27 مايو 2025م

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!